الجمعة، 25 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية.. أصالة الحس والمذهب المادي (2)

‏بعد أن وضحنا _في التدوينة الأولى_ منهج أصالة العقل وملامحه الرئيسية العامة والتي منها إثبات مرتبة إدراكية عقلية غير راجعة للحس"والخيال" وبالتالي إمكان التوصل لمعارف عن طريقه لا نتوصل إليها حساً إما لأنها غائبة للبعد أو لأنها موجودات غير محسوسة أصلاً ومجردة..
‏وعرفنا أنه يلزم هذا المذهب أن الوجود لم ينحصر في المحسوس وأنه المنهج الوحيد الذي ينتج معرفة علمية سواء تجريبية أو غيرها ، ثم ختمنا بتوضيح كونه المنهج المعرفي الذي هو منطلق الإسلام ، ننتقل هنا للقسم الثالث من السلسة وهو عرض للمنهج المقابل للمنهج العقلي وهو " أصالة الحس "  .
‏ثالثاً :- أصالة الحس
‏للحديث عنها سأنقل تعريفها من كتاب د.يوسف كرم الذي تصدى فيه لعرض أسس المذهب الحسي ومناقشته.
‏يقول :
‏"فريق مهم من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة ، وأن مايسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها -ترجع للحواس بمعنى أنه مجرد الخيال-
‏هؤلاء الفلاسفة يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة
‏ويدعون بالماديين متى دار الكلام على الوجود وذلك لقولهم : لا وجود لغير المادة ، ولامعرفة دون الحس
‏ويدعون بالإسميين أو اللفظيين لقولهم : مالمعاني إلا أصوات في الهواء , أي أسماء و ألفاظ فحسب
‏وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماءح ذات دلالات واسعة وغامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها"
‏يوسف كرم/العقل والجود/ص6
‏ماسبق تعريف دقيق سنقوم بتحليله لتصور المنهج التجريبي الحسي المادي بشكل أدق والتعرف على ملامحه :-
‏1-يحصر وسائل المعرفة في الحس فقط أو مايرجع إلى الحس مثل الخيال
‏2-يفسر العقل بأنه عمل يرجع إلى الحس بطريقة أو أخرى وبالتالي ليس قوة إدراكية مستقلة العمل والدلالة
‏3-يحصرون الوجود في المادة فيحكمون على الغائب بالشاهد لأنه لا توجد حقيقة في الوجود مخالفة لما نشاهده "أي لامادية"
‏4-فقدُ العقل لدلالته العلمية وجعله إسماً يطلق على معاني واسعة وغامضة وغير محدده.
‏5-لزمهم من مبدأهم الحسي إنكار المعاني المجردة وكذلك المعاني اللغوية والعلمية و اعتبروها مجرد ألفاظ فارغة لأن المعنى نتاج التجريد العقلي لا التصور الخيالي الحسي وهم معرفياً ينكرون "أصالة العقل واستقلاله"
‏وهذا أساس نقدهم لـ اللغة " فهي تحوي معاني لا مثال لها محسوس ، مثل قولنا الإنسان والشجر واللون ، فهي معاني مجردة فلايوجد في الخارج الإنسان وإنما يوجد أحمد وعمر ومجموعة أفراد مختلفة جزئية محددة "
‏وكذلك أساس نقدهم للمنطق
‏فالقياس المنطقي و الإستدلال الذي هو أساس المعرفة العقلية لايوجد إلا بانتقال من مقدمتين "و وسط كلي مجرد" إلى حكم ونتيجته..
‏فنقول :
‏العالم حادث
‏لكل حادث مُحدث
‏_إذن العالم له محدث
‏أو نقول:
‏الحديد معدن
‏وكل معدن يتمدد بالحرارة
‏-الحديد يتمدد بالحرارة
‏فنجد "حادث" و "معدن"
‏عبارة عن معاني مجردة لاوجود محسوس لها
‏ونجد "كل حادث ، كل حديد ، وكل ماء..إلخ "
‏من المقدمات الكلية التي هي أساس القوانين العلمية
‏مقدمات غير معتمدة على التجربة والإستقراء لأنه لا أحد جرب  "كل الماء ولا كل المعدن" ولا وجود أصلاً للكل إلا في العقل وعبره ..
‏وهؤلاء أنكروا الكليات والمعاني المجردة لعدم وجودها الحسي ولأنها نتاج فعل عقلي فلزمهم أن القياس لاوجود له ومعرفته وهمية لذا اكتفوا بإرجاع المعارف كلها للإستقراء التجريبي ووقعوا في تناقضات مؤلمة جراء هذا التشوه بإنكار العقل والمنطق .
‏فالكليات مثل "الإنسان..الشجرة..إلخ " كما قلنا هي نتيجة تجريد عقلي للجزئيات المحسوسة الخارجية "أحمد وخالد وهذه الشجرة وتلك الشجرة"
‏حيث يتوصل العقل لماهيتها بالتجريد فيستخرج معنى كلي لا وجود له في الخارج المحسوس وهذا المعنى هو أساس "التعميم العلمي" و أساس المعرفة البشرية حتى التجريبية منها وإنكاره كما يقول يوسف كرم :
‏"الحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير"
‏فلم يعد هناك حتى استقراء تجريبي منتج لأنه لو ظللنا نجرب لن نصل لتجربة "كل الماء" الموجود والذي حيوجد لنقول "كل ماء يغلي"
‏فالإستقراء نفسه والتجربة نفسها قائمة على أرضية عقلية استدلالية هي ذاتها التي ينكرها الحسيّ ..
‏ومختصر تهافت هذا المنهج وعقمه يلخصه بقوله :
‏" نجمل تهافت مذهبهم بقولنا : أنه من جهة يزعم أنه مناصر للتجربة ومتابعة الواقع المحسوس ومن جهة أخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضروريتها فيدع العلم بلا إسناد "
‏كرم/العقل والوجود/ص40
‏فالعلم هو قوانين "كلية وضرورية" والكلية والضرورية ليست نتاج الحس وهذا متفق عليه فمتى آمنا بالعلم آمنا بالعقل ومتى آمنا بالعقل آمنا بوجود الله..
‏وهذا أحد اسباب تمسك الملحدين بالمنهج المادي لقطع الطريق الموصل للعلم بالله وفاتهم وربما تناسو عمداً أنهم بذلك قطعو طريق الإيمان بالعلم التجريبي نفسه..
‏فكما نرى أنه منهج قاد أصحابه إلى إنكار المعرفة بأكملها وأما تمسكهم بالتجريبية وواقعيتها تمسك ظاهري غير مبرر ودليل على تناقض داخلي في نفس المذهب المادي.
‏"
‏هذه أبرز سمات المذهب المادي التي يمكن أن نستشفها من تعريف د.يوسف كرم..
‏ومن أراد النقول الفلسفية الغربية فعليه بالرجوع لنفس الكتاب "العقل والوجود" فهو عرض ونقض لها ووضح تهافت هذا المنهج الفكري وعقمه في إنتاج المعرفة مع إستقراء تام يليق بصاحب أعظم كتب تأريخ الفلسفة العربية..
‏بعد توضيحنا لمعالم منهج "أصالة الحس" المعرفية الكبرى والتي تميزه عن غيره
‏سنشرع في التدوينة اللاحقة بعرض تأصيل ابن تيمية المعرفي ومقابلته مع المنهج الحسي وتعريفه الذي تطرقنا له..
‏وكذلك فحص اتساق مذهبه الداخلي بالتزامه التام بمنهجه الحسي .



...يتبع

هناك تعليق واحد:

  1. أستاذي.. مؤسس المذهب التجريبي جون لوك يعترف بدور العقل ويؤكد أنه يعمم ويفكك ويركب، لكن تعميمه اعتمد بالدرجة الأولى على تصور الحديد والتمدد وهو ما اكتسب بالحس، لذلك يرجع أصل المعرفة للحس لكنه لم يهمش دور العقل بالتعميم.. ياريت تفيدنا بهذه النقطة عزيزي

    ردحذف

ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. إثباته الحد والتحيز/ التركيب / والحجم والثقل 4

بعد اكمال السلسلة الأولى في الأصول الفلسفية والمعرفية لعقيدة ابن تيمية بدأت في كتابة سلسلة أخرى توضح فروع تلك الاصول التي اتسق فيها ابن...