الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية..مقدمة (1) ‏


‏تبدأ جميع النظرات الفكرية بمافي ذلك المعتقدات من قاعدة الأساس المعرفي الذي به يحدد الشخص حدود معرفته وطرقه الصالحه للتوصل لها ثم يصل عبرها لتصوره للوجود بشكل عام ومناهج التعاطي معه وهذا الأساس يسمى "نظرية المعرفة"
‏ويمكن تقسيمها لقسمين متوازيين يندرج تحتهما التوجه الإنساني الفكري
‏وهذان القسمان هما :-
‏1-أصالة العقل
‏2-أصالة الحس
‏وسنقوم في هذه السلسلة بعرض مطول ومبسط لتوضيح هذه المسألة بشكل يسير وواضح حتى لغير المختصين
‏وستكون خريطة العرض من أربع اقسام رئيسية:-
‏أولاً : مقدمة تمهيدية لبعض التعريفات ..
‏ثانياً : عرض لمنهج "أصالة العقل" / العقلي
‏مع توضيح أنه مبنى الفكر الإسلامي عامة
‏ثالثاً : عرض لمنهج "أصالة الحس" / الحسي
‏مع توضيح لاختيار ابن تيمية له كمنطلق معرفي
‏رابعاً : عرض تأصيل ابن تيمية واتساقه مع أصوله الحسية

‏وتحت الأقسام الرئيسية السابقة تندرج تفريعات الغرض منها التبسيط للعموم لا التطويل ..
‏كما اعتمدنا كتاباً معيناً لعرض المذهب الحسي في هذه السلسة وهو كتاب "العقل والوجود" للفيلسوف يوسف بطرس كرم
‏لأسباب منها التيسير للرجوع إليه وسهولته لكونه حديث نسبياً واعتماد د.يوسف كفيلسوف ومؤرخ فلسفة دون منازع ولأنه مسيحي رغم ترجيحه لمنهج العقلانية وهذا يخفف من مشاغبة " التحيز والتواطؤ التي قد يدّعيها البعض في العرض"

‏أولاً :- نبدأ بمقدمة تعريفية لبعض المصطلحات:

‏(أ) للإدراك البشري مراتب
‏1-الحس
‏وهو الإدراك الحسي المباشر سواء بالحواس الظاهرة -البصر والسمع والشم والذوق واللمس- أو الحواس الباطنة -كالحس بالجوع والخوف-
‏2-الخيال
‏بعد أن يدرك الإنسان المحسوسات بالطرق الحسية ويحتفظ بها في ذاكرته يمتلك قوة إدراكية للتصرف في صورها بالتركيب والتفريق وهو مايسمى الخيال أو الوهم عند البعض
‏وهذه المرتبة كما نرى لا تتعدى الحس فهي ليست مستقلة ولامتجاوزة له بل هي أسيرة له محدودة بحدوده
‏3-العقل
‏وهو القوة المدركة للكليات المجردة وهي تتجاوز الخيال والحس وتقع في المرتبة العليا من الإدراك فبها يدرك الإنسان ماليس مادي أو محسوس أو ذا صورة وشكل فيدرك مفاهيم " كالإنسان والشجرة والحيوان وعدم اجتماع النقيضين " لا وجود لها في الخارج وبالتالي لا وجود لها في الخيال لأنها مفاهيم كلية ومافي الخارج جزئيات فقط " أحمد  وهذه الشجرة المعينة وهذا الحيوان المعين "
‏وكذلك لا وجود لها في الخيال لأنه ليس إلا لوحة لتفكيك وتركيب الصور التي احتفظت بها الذاكرة للمحسوسات الخارجية

‏(ب)ماذا نعني بأصالة العقل وأصالة الحس؟
‏نعني بها معاني منها الإستقلالية بالفعل والأثر أو حصر الأثر بالشيء لوحده
‏-فأصالة العقل هو منهج معرفي أثبت للعقل إستقلاليته بالوصول لمعارف قد لا يصل إليها الحس
‏إما - وهذا مهم جداً - لأنها غائبة عنه للبعد فهي في ذاتها محسوسة ولكنه قصر عن الوصول لها و حسِّها
‏أو لأنها أصلاً ليست من جنس مايتناوله الحس ، بمعنى ليست محسوسات في ذاتها

‏-أما الإتجاه الموازي الآخر وهو أصالة الحس فهو اتجاه حصر المعرفة فقط بالحس ونفى كل معرفة لاترجع إلى الحس واعتبر العقل اقصى مالديه هو " مرتبة الخيال لأنها ترجع إلى الحس" وماعداها إعدام محضه ومعارف جوفاء وهمية

‏ثانياً :-أصالة العقل
‏سنبدأ باستعراض المنهج المعرفي الذي يثبت "أصالة العقل" لكونه هو المنهج المعرفي الإسلامي الذي لم يشذ عنه إلا النوادر.
‏يثبت هذا المنهج أصالة العقل وبالتالي يثبت الكليات والمعاني المجردة التي هي أساس فلسفي للنظريات العلمية التجريبية والعقلية على حد سواء ويثبت مناحي إدراكية قد توصل لمعارف  (ليست محسوسة ولامتخيلة ) عبر القياس المنطقي والإستدلال العقلي بالمعلول على علته
‏لذا هذا المنهج يفرق بين التصور والتخيل فالتصور هو إدراك الشيء سواء كان متخيلاً أو لا فليس من شرط صحة الادراك والحكم أن يمكن تخيله .
‏ويعبر عن هذا الخلاف د.يوسف كرم بقوله:
‏" إن الخلاف بيننا وبين الحسيين هو في إجهادهم إرجاع المعنى المعقول إلى الحس ونفيه محتجين بذلك أنه لا يمكن تصوره وهم يقصدون أنه لا يمكن تخيله"
‏يوسف كرم/العقل والوجود/ص17

‏لذا لزم هذا المنهج منهج آخر وجودي " أي تصور للوجود " وهو أن الوجود أعم من المحسوس المادي وأن العقل يدرك الوجود اللامادي بطرق معينة
‏ويكفي هذا الإستعراض السريع لكون التدوينة غير مخصصه لذلك ولكن سنعقب بنقول لأئمة السنة الممثلين للمنهج الإسلامي المعرفي .. سنلاحظ فيها جميع ماسبق :-

‏1-إثبات العقل كوسيلة لمعرفة أصلية غير راجعة للحس
‏2-فك الإرتباط بين الخيال والعقل وإثبات وجود غير متخيل وبالتالي ليس محسوساً
‏3-إثبات إمكانية إدراك شيء عبر وسائل عقلية بحته كالقياس الكلي المنطقي

‏يقول الحجة الغزالي مفصلاً ماسبق برشاقة:
‏" نسبة الموجودات إلى مداركنا منقسمة إلى محسوسة و إلى معلومة بالإستدلال لا تباشر ذاتها بشيء من الحواس ، بل أكثر الموجودات معلوم بالإستدلال عليها بأثارها ولاتحس ، فلا ينبغي أن يعظم عندك الإحساس وتظن أن العلم المحقق هو الإحساس والتخيل ،  وأن مالا يُتخيل لا حقيقة له .. ولا ينبغي أن تُنكر دلالة العقل على أمور يأباها الخيال "
‏الغزالي / معيار العلم ص38
‏لخص الغزالي أسس المنهج الفكري الإسلامي الذي هو عماد الدين والعقيدة فمن هذا المنطلق المعرفي تأسست مناهج وعلوم المسملين جميعها بدءاً من المعتقد إلى اللغة مرورا بالأصول ومنه توسعت المعرفة البشرية بعد أن دفعها الإسلام لأن تتحرر من بلادة الحس وأسر الخيال انطلاقاً من العقيدة الصافية من شائبة الوهم والخيال وعلائق الحس " المادية "..
‏يقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة عن الله:
‏" لا تدركه الأوهام ولاتبلغه الأفهام "
‏إثباتاً بأن الله منزه عن الوهم والخيال الذي لا يتعامل إلا مع المحسوس وبالتالي أنه حقيقة وجودية مخالفة للمحسوس فلا يمكن للوهم والخيال التعامل معها وإنما العقل وحده عبر الإنتقال من أثره إلى بعض الأحكام العقلية الحاكية عنه إثباتا  ونفياً .
‏فنعرف من دلالة حدوث العالم عبر تغيره وتركبه أن له خالق أحدثه ليس من جنسه منزهاً عن التغيّر والتركّب والحدود والجسمية ونعرف من وجود العالم قدرته ومن نظامه المخصص بمقادير معينة إرادته وعلمه وحياته ومن شريعته كلامه وأنه سميع بصير حي لا يموت باقٍ وقديم لا أول له ولا انتهاء دون زمان ومكان .
‏ونقف عند حدود العقل دون شهوة تحكيم الخيال ومحاولة إشباعه
‏يقول الحجة الغزالي:
‏" فإذا عرضت على نفسك علمك بصانع العالم وأنه موجود لا في جهة ومكان ، طلب الخيال له لوناً وقدراً وقرباً وبعداً واتصالاً بالعالم أو إنفصالاً عنه إلى غير ذلك مما شاهدت في الأشكال المتلونة... فإذا عرفت إنقسام الموجودات الى محسوسات وإلى معلومات بالعقل لا تباشر بالحس والخيال . فأعرض عن الخيال رأسا وعوّل على مقتضى العقل"

‏ويقول الإمام الرازي "أهل التوحيد والتنزيه هم الذين عزلوا حكم الوهم والخيال عن الله وصفاته"
‏وجرى على ألسنة الأئمة قولهم "وكل ماخطر ببالك فالله بخلاف ذلك"
‏تأكيداً على أن خواطر البال التي هي عبارة عن متخيلات ومحسوسات لاعلاقة لها بالله ولا بصفاته.
‏أما تعريف العقل وإثبات أنه أحد طرق المعرفة الأصلية فهو مبثوث في كتب المعتقد من عصر التدوين إلى اليوم فيقول الإمام النسفي في أول سطور عقيدته الشهيرة
‏"أسباب العلم عند أهل الحق ثلاث الحس والخبر الصادق والعقل"
‏وعلى ضوء ماسبق تتضح نصوص عقائد المسلمين المتواترة من عهد السلف "خلافاً لمن شذ عنهم ممن ندر"
‏فنجدهم يثبتون مايمكن أن يحكم بصدقه العقل ولا يستطيع الخيال تصوره..

‏يقول الإمام إبن عساكر حاكياً عقيدة اهل السنة والجماعة
‏"ولا يقالُ متى كانَ ولا أينَ كانَ ولا كيفَ، كان ولا مكان، كوَّنَ الأكوانَ ودبَّر الزمانَ، لا يتقيَّدُ بالزمانِ ولا يتخصَّصُ بالمكان، ولا يشغلُهُ شأنٌ عن شأن، ولا يلحقُهُ وهمٌ، ولا يكتَنِفُهُ عقلٌ، ولا يتخصَّصُ بالذهنِ، ولا يتمثلُ في النفسِ، ولا يتصورُ في الوهمِ، ولا يتكيَّفُ في العقلِ، لا تَلحقُهُ الأوهامُ والأفكارُ، (لَيْسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) "
‏فقد أثبت ماحكم به العقل لله من إثبات وجوده ثم إثبات مخالفته للمحسوس ثم إثبات بعض مايتصف به ممادل عليه أثره وأكد على أن طريق ذلك معرفة عقلية محضة فوق الحس ، فليس الله موضوعاً للحس والخيال كما أن العقل ليس هو محض التخيل والاحساس وأيضاً ليس الوجود حكراً على المحسوس المادي حتى يتساوى نفي التخيل مع نفي الوجود ..
‏وهذه المنهجية أصبحت شبه مُسلَّمَة في العلم الحديث ، حتى أن بعض الحقائق التي يتوصل إليها عقلاً كحد الكون تجد المتخصصين ينصون على استحالة تخيل حد مكاني ليس خلفه مكان ولكن ذلك لا ينفي واقعية تحققه خارجاً عبر البرهان العقلي أو الحسابي " كما في فيلم وثائقي شاهدته عن نسبية أينشتاين "

‏ويجب التنويه إلى أن المنهج السابق رغم أنه منهج الجماعة وهم المعروفون بأهل السنة إلا أنه لم يقتصر عليهم ، فهناك فرق افترقت عنهم لتفاصيل إما سياسية وإما فكرية إلا أنهم لم يخالفوا في القواطع المنهجية الكبرى " أصالة العقل " فهو تقريباً منهج الإسلام بكل طوائفه من سنة ومن شيعة وزيدية وأباضية ومعتزلة
‏ويُستثنى من ذلك بعض القليل ، كالكرامية قديماً ثم أتباعهم مثل ابن تيمية ومن اتبعه حديثاً ممن تسمو بالسلفية أو الوهابية "
‏وسنفصل في قطب " أصالة الحس " الحديث أكثر عنهم .

...يتبع

هناك 3 تعليقات:

  1. الله يسعدك فين ما كنت
    رجاء حاول تذكر اسماء الكتب الحديثة لسهولة فهمها ولقربها من اللغة الدارجة
    شكرا لك

    ردحذف
  2. أحسنت.. بوركَ إبهامك

    ردحذف
  3. مقال دسم وجدير بالقراءة والتأمل مرات ومرات..

    ردحذف

ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. إثباته الحد والتحيز/ التركيب / والحجم والثقل 4

بعد اكمال السلسلة الأولى في الأصول الفلسفية والمعرفية لعقيدة ابن تيمية بدأت في كتابة سلسلة أخرى توضح فروع تلك الاصول التي اتسق فيها ابن...