بعد أن وضحنا في سلسلة التدوينات السابقة التي بعنوان "ابن تيمية فيلسوف المادية" أصول ابن تيمية ومطابقتها للمنهج المادي الحسي نشرع في توضيح عقيدته المتسقة مع تلك الأصول التي قعّدها.
ولتأكيد ذلك نستخدم أصوله نفسها لتقريرها على طريقة متون العقلاء ثم نستخدم كلامه لرؤية ذلك التقرير
-الأصل الأول هو حصر المعرفة في الحس:
وهذا الأصل يستلزم نفي الاستدلال العقلي لأنه طريق غير حسي للمعرفة ويجوز إمكان إثبات موجود غير مادي متحقق في الواقع وهذا ينقض معتقد ابن تيمية..
وبالتالي انسد باب العلم بالله عقلا ولكن ابن تيمية متدين فلم يبقى له سوى المصادرة بإثبات وجود الله دون دليل أي كمسلمة وهذه المصادرة سماها "الفطرة"
-الأصل الثاني قياس الشاهد على الغائب:
"وهذا القياس الحسي يعتمد على أنه مادام ليس في الوجود سوى المواد المحسوسة فالقياس الممكن هو الإنتقال من المحسوس المشاهد إلى اثبات محسوس غائب
وقد فصلت هذا القياس التيمي في التدوينة السابقة التي بعنوان "الأصول المعرفية للتجسيم" من شروح ابن تيمية نفسه لها."
ومادمنا أثبتنا الإله مصادرة فالإله يجب أن يكون له صفات ولكن هذه الصفات ليست من استدلال عقلي لإنسداده فماذا بقي؟
بقي أن ننطلق مما نشاهده ونختار للإله صفاته والأختيار سيكون مبنيا على معتقد مسبق وأصول ثم تتم محاولة شرعنته اعتمادا على "الظواهر النقلية أو رد دلالات النصوص" والظاهر كما في أصول الفقه مغاير للنص فهو "ما احتمل معنيين أحدهما راجح والآخر مرجوح" وهذا كله اعتمادا على مانعتبره كمالات من الأجسام التي نراها في ما نشاهده بحواسنا وتليق به .
-أوّل مانبدأ به هو أننا في الشاهد لانجد سوى الأجسام التي تقوم فيها الأعراض
وهذا مساو للموجود عند ابن تيمية فبالتالي الله مادام موجودا فهو جسم تقوم فيه الأعراض ولكنه إله لذا يجب أن يكون مميزا فنجعله جسما لكن بشرط زائد لغويا وعقليا على حقيقة "الجسم" ، وهو أنه لم يكن متفرقا واجتمع ولايمكن تفرقه بمعنى جسما كان مجموعا على الدوام.
ثم يجب لتحقيق ذلك الشرط أن يكون جسما مصمتا أي غير مجوف فنثبت ذلك له.
-ثانيا نثبت لواحق الجسم من الحد والحجم والتركيب وجواز الحركة والسكون ونثبت الجسم الكامل وهو في المخلوقات "الإنسان" فنثبت لله أعضاء وجوارح وأجزاء كاليدين والعينين والساق..الخ
ونجد في الشاهد أن الانسان محتاج للآلات للفعل كاليد للقبض والقدمين للحركة
فنثبت له آلات الفعل ولكنه اله مصمت أي غير مجوف فبالتالي لايحتاج للمرئ والمعدة لعدم حاجته للأكل فننفيها عنه.
-ثالثا نرى أن الأجسام تتكمل شيئا فشيئا ونراها تتأثر وتنفعل وتقوم فيها الحوادث التي هي أشياء تنخلق ثم تنعدم.
لذا نثبت لله أنه يزداد كمالا شيئا فشيئا بكون من كمالاته وجود المخلوقات المتتالية بالفعل وكل مخلوق هو كمال لله جديد لم يكن عنده قبلا
ونثبت لله أنه متأثر بالقدرة وينفعل ويتحرك ويصعد وينزل وغيرها من التأثرات ولكن بشكل مميز فهو يؤثر في ذاته بنفسه فيخلق فيه كمالاته في داخله ومخلوقاته في خارجها ويجب أن نضيف ميزة له وهي أن نمنع "مجرد تسمية" مايخلقه في داخله بالمخلوقات حتى لايصبح شنيعا قولنا الخالق في داخله مخلوقات ونسميها حوادث فيصبح الخالق في داخله حوادث.
-ثم بعد ذلك لانجد جسما يخلق شيئا من العدم؟!
وبحسب الخيال لايمكننا تخيل شيء لامن شيء فنحن نرى النجار لايخلق السرير من عدم بل من خشب يعدم صورته كجذع ليصنع منها طاولة!
لذا نثبت لله أنه لايخلق شيئا من عدم بل لايخلق شيئا إلا من مادة سابقة وهكذا إلى ما لابداية فيصبح العالم لازم من لوازم الله لا أن الله كان ولاشيء معه "كما يقول المسلمون في عقائدهم جميعا" ثم خلق .
لأن ذلك محال على الجسم ومحال في الخيال ولكوننا نستند على الخيال والشاهد فنقيس على هذا فقط ومابعده محال كما نص عليه ابن تيمية "راجع التدوينة الثالثة في السلسلة السابقة"..
ثم نفكر في مكان الله فكل جسم له مكان فنثبت لله مكان وسيكون في الأعلى ولكن العالم كروي فهنا يجب علينا أن نثبت علو الله كرويا بمعنى الأحاطة فتترتب الاشكال الهندسية للوجود من كرات داخلة في بعضها سطحها الخالق وداخلها الموجودات.
ثم بعد ذلك نبحث في هيئة الله لنثبت أنه في أتم "صورة" وجالس بزهو على عرش فليس أقل من الملوك الذين يجلسون على كراسي في الشاهد.
ولكنه يفوقهم حجما لأنه اله فنثبت له قدر"حجم" عظيم وأكبر من الاجسام المشاهدة بكثير.
ثم بعد ذلك نفصل صفاته الأخرى فنقيس صفة الكلام عنده على مانشاهده فنرى أننا نتكلم بكلام مخلوق وحروف وأصوات فنثبت ذلك لله فكلامه مخلوقات في داخله -اتفقنا على تسميتها حوادث كنوع من التمييز اللغوي لشناعة لفظة مخلوق في خالق- من حروف وكلمات في داخله يخلقها ثم يلفظها...الخ
ونبدأ فقط بوضع بعض العوازل الشكلية لإضفاء نوع من القداسة على الإله فنبدأ ننازع هل يسمى جسما أم لا "وطبعا النزاع في التسمية واللفظ لا في المعنى فهو ثابت له"
وهذا ملخص المعتقد المنبني باتساق على الأصول المادية إن تديّن أصحابها..
تنبيه: هكذا تصاغ المتون العقدية على الأصول عند العقلاء لأنها لوازم الأصل كلزوم النهار لطلوع الشمس فلا يقال الشمس طالعه ولكني لم أقل النهار موجود !
فهذا محله العلوم التي تقبل تعاقب المتضادات كالعلوم الطبيعية فقد يوجد الماء بارد او حار أما في العقائد المعتمدة على الأصول المعرفية فلكي تنفي اللازم لابد من إثبان أن الأصل المعرفي يستلزم نقيضه أو لايقبل هذا القول
وتسوق دليلا على استحالة ذلك وليس كما يفعل الماديون من سلفية وملاحدة في النقاش الالهي حيث يعتمدون على النقل والرصد الاستقرائي لا على الأصل والتأسيس العقلي.
فالعقائد على مستوى الالهيات تختلف عن الممكنات ففي العقائد قاعدة
" كل ماثبت جوازه لواجب الوجود وجب له."
لأنه واجب الوجود فلافرق بين قولك لا أنفي ولا أثبت للخالق الذيل وبين قولك الخالق له ذيل.
فالتجويز = الاقرار
لذا يجب سوق دليل العدم لا الاكتفاء بعدم الدليل حين نتحدث عن العقائد.
وهنا تحدث الكثير من المغالطات بسبب عدم العقيدة واقعا فتجد التيمي يسارع لنفي مثلا "أن ابن تيمية يقر بمحدودية الله الجسمية"
ثم حين تثبتها له يرجع فورا مقرا بدعوى أنها ثبتت نقلا !
وهذا التصرف تشغيب وضلال علمي وشرعي .
ننتقل لرؤية اتساق ابن تيمية وأتباعه مع العقيدة السابقة التي استنبطناها بشكل بسيط تفريعا على اصوله المعرفية ونرى عبقرية اتساقه وعدم تناقضه.
..يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق