الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية.. إبطال المنطق/الجزء الثاني (5)


‏ماذا بقي لابن تيمية بعد نفي العمليات العقلية؟
‏ لم يبقى سوى التعريف اللغوي الذي لاتقوم عليه العلوم والتعريف بالرسم كماشرحته وهو تعريف يقبل التحليل الحسي أيضا لاتقوم عليه العلوم كما تقوم على الحد..
‏ولذا نص على أنها الوحيدة الصحيحة فيقول
‏"فالحد إما بحسب الاسم وهو الحد اللفظي (اللغوي) الذي يحتاج إليه في الاستدلال بالكتاب والسمة وكلام كل عالم وإما بحسب الوصف وهو تفهيم الحقيقة التي عرفت صفتها (الحسية لا العقلية) وهذا يحصل بالرسم والخواص"
‏ج/9/263
‏فأصبح التفكير عند ابن تيمية مجرد لغة وهذا أساس الوضعية المنطقية التي تأسست في القرن المنصرم على أيدي فلاسفة غارقين في المادية والالحاد ثم تراجعو عنها لأنها متهافتة لدرجة تبطل حتى العلوم المادية القائمة على الحدود العقلية والكليات
‏والتي رفع رايتها بعض المتحمسين عندنا من اتباعهم مثل زكي نجيب صاحب المنطق الوضعي الذي ظل يدافع عن هذا التهافت رغم تراجع أصحابه عنه وغرق في المادية والالحاد حتى ألف كتاب خرافة المقدس
‏لأن من أبطل العقل أبطل كل شيء من العلم إلى الدين..
وكما وصفهم د.يوسف كرم
"أصبح العلم والتفكير قائم عندهم على ألفاظ لا على أشياء فتهدم"
والغريب أن ذلك ممايعده المتمسلفة من مناقب ابن تيمية ويسودون الصحف افتخارا بأنه سابق للوضعية المنطقية وأنه فيلسوف اسمي !

‏ولانطيل بذكر شبه ابن تيمية النقضية فهي ليست أصيلة بل فيها من التزييف ماذكرنا مثالا عليه وهذا سبب أزمة اتباعه الذين رددو كلامه في رسائل علمية "كرسالة الحد لسلطان العميري" ثم تفاجأو بتكذيب الناس لهم بالمصادر لأنهم نقلو فقط نقوض ابن تيمية وأقواله التي نسبها للمناطقة دون تأكد من مراجعهم..
‏وملخص حجج ابن تيمية ماقاله صاحب موسوعة نشأة الفكر الفلسفي د.علي النشار
‏"إن مصادر ابن تيمية -في نقد المنطق- هم الشكاك والسوفسطائيون اليونان، ولايذكر ابن تيمية أسماءهم ولايشير إليهم ومن المؤكد أنه اطلع على أرائهم في كتب المتكلمين وفي كتب الشراح الإسلاميين للفلسفة اليونانية ، ويحاول ابن تيمية أن ينقل يربط هذه الحجج بنزعته الخاصة في نقد المنطق وأحيانا ينقلها بأمثلتها وألفاظها دون اشارة"
‏مناهج البحث/ص178
‏وقد ذكرت في تدوينة أصالة الحس نبذة مجملة عن سفسطتهم
‏وبعد إبطال ابن تيمية للاستدلال العقلي وأدلته في منهجه استبدله بقياس الأولى
كما يقول ابن القيم ملخصا كلامه:-
‏"الرب تعالى لايدخل في قياس تمثيل ولا قياس شهود ..فهذان الفرعان من القياس باطلان في حق وأما قياس الأولى فهو غير مستحيل في حقه بل هو الصحيح الواجب في حقه عقلا ونقلا"
‏وهذا "قياس الأولى"
‏هو القياس الوحيد الذي يمكن أن ينجو لحسي لأنه ببساطة كما شرحنا في التدوينة السابقة يتوافق مع قياسهم الوحيد وهو "الانتقال من محسوس إلى محسوس"
‏ولأخذ نبذة عنه نرى تطبيقا له
‏فابن تيمية يثبت به الحركة لله _تعالى عن ذلك علوا كبيرا فيقول:
‏(الموجود المتحرك أو الذي يصعد وينزل أكمل من الساكن ومادامت الحركة كمالا للمخلوق فالخالق أولى بها)
‏في الرد على الأساس [١/٥٩٨]
‏وكما نرى أنه تطابق مع أصله لذلك استخدمه بدل الاستدلال العقلي
‏فما فعله هو أن الحركة كمال للأجسام والجسم المتحرك أكمل من الجسم الساكن فإذا يجب اثبات الحركة لله فهو أيضا جسم!
‏فالموجود عنده محصور في الاجسام فالحركة ليست كمالا للموجود وإنما للجسم فهي انتقال جسم من نقطة لأخرى والسكون ثبوت جسم بين نقطتين..
‏ولو كان يثبت العقل لعرف تهافت هذا القياس فالوجود ليس فقط الوجود المادي الجسمي والحركة والسكون ليست كمالا للموجود بل كمال للجسم الموجود
‏وغير الجسم أصلا لا يوصف بحركة وسكون كما أن غير الحيوان لايوصف بذكورة وأنوثة فهذه كمالات مقيدة بقيود بعض الموجودات المحدودة وليست كمالات مطلقة للموجود بدون قيد..
‏ومافعله ابن تيمية هنا هو مايسميه المناطقة مغالطة حيث أسقط جهة القضية وأخفى المقدمة المنازع عليها أصلا فنسب الحركة للموجود وأخفى "الحركة كمال للموجود بشرط كونه جسما لا من حيث هو موجود"
‏وهو نفس القياس الذي يستخدمه السلفية اليوم في مبحث الصفات فينسبون أن كمال الإنسان له عينين إذا الله أولى بهما ونحو هذه مما يسمونه توحيد وصفات!
‏ويجب التنويه على تلبيس بعض الأتباع المتمسلفة حين صورو أن نقض ابن تيمية للمنطق هو نقد داخلي بمعنى انه مثل نقد المناطقة لبعضهم!
‏والحقيقة أن نقود المناطقة لبعض داخلية بمعنى ماهي شروط الشكل الاول في القياس أو الرابع..الخ
‏أما ابن تيمية فنقضه ليس داخلي بل هو إبطال للمنطق كله بإبطال أصوله بأسس فلسفية كبقية الماديين كما بينا
‏وبقي ملاحظتان:
‏-ابن تيمية كان متسقا مع فكره وأبطل المنطق والاستدلال العقلي حتى يقيم مذهبه وحججه العقدية مبنية على هذا الأصل..
‏فما يفعله بعض المتمسلفة الجدد من الهيام والإقرار بالمنطق لايخلو إما من جهل وإما من تلبيس دافعه مواكبة الجو العقلي العام لأنه إن اعترفت بالمنطق لزمك إبطال عقيدة ابن تيمية سواء بأنك مجبر على التسليم بجدوى البرهان المنطقي وواقعية نتيجه فتبطل العقيدة التجسيمية
‏أو تقر بتوصل العقل لمعرفة لا عن طريق الحس "الاستدلال المنطقي" وتقر بوجود أعم من المادة وستسقط جميع حجج ابن تيمية المبنية على "معطلة اثبتو خالقا معدوما ليس في جهة ولاحيز ولاداخل ولاخارج ولامتحرك ... ونحوه.
‏أما إن كنت تؤمن بحقيقتين إحداهما علمية "المنطق وواقعيته" والأخرى عقدية "التجسيم والمادية" لتتعايش مع نفسك كما فعل المتعلمنون مع أزمة الكنيسة سابقا فهذا شأنك لكن لاتزعجنا بدعوى أنك متسق ..
‏-من التلبييس الإحتجاج بفتوى ابن الصلاح والنووي والسيوطي وغيرهم بأنها من جنس نقض ابن تيمية أمام العامة لتبرر مخالفتك له
‏فمن المعلوم أن هؤلاء لم يخالفو في أصول المنهج العقلي وهم من السنة عقيدة لذا تعتبرونهم معطله جهمية وفتواهم كانت لإعتبارات أخرى "كما ذكر ابن الصلاح أنه أفتى لا لذات المنطق وإنما لكونه كان مجعولا مقدمة للفلسفة والتي كانت عبارة عن معتقدات يونانية" لا لمخالفات فلسفية والتوضيحات والردود عليهم في كل كتب المنطق
‏ومساواتهم بابن تيمية للتبرير مغالطة
‏وهم نفسهم هؤلاء المتعقلنون من المتمسلفة يهاجمون الحداثيين المنكرين للحكم الشرعي بناء على الاشتهاء "الموسيقى لاتؤذي اذا هي حلال" حين يحتجون بمن حللها من العلماء
‏لاختلاف الغايات والدوافع فالأول أباحها لا إتباعا لشرع بينما الآخر أباحها اتباعا لحكم الشرع
‏فهذه القضية لاتختلف عن تلك ومساواة الحكم الظاهر دون الباعث عليه من أشنع المغالطات التي يصرخ متعقلنة المتمسلفة أمام الحداثيين منددين بها فمن السخف تجاهلها هنا..!
‏وبقي من هذا القسم الرابع 
‏النقض اللغوي نتمه في التدوينة القادمة

‏...يتبع

ابن تيمية فيلسوف المادية... إبطال المنطق /الجزء الأول (4)

‏٤‏-إنكار المعاني المجردة ونقض المنطق:
‏من لوازم المنهج الحسي نقض العلوم العقلية رأساً وقد أفرد يوسف كرم في كتابه أراء فلاسفة الغرب في ذلك ومحاولاتهم المستميته لنقض المنطق وهو نفس الهوى السائد اليوم عند الغرب ومقلديهم
‏فالمنطق قوانين عقلية مجردة لعصمة العقل كما النحو علم لعصمة اللسان
‏والإلتزام بها ينقض العديد من الأسس الفلسفية التي يقوم عليها الكثير من العبث والسفسطة كتوجه نسبية المعرفة
‏أو توجه مادية الوجود أو توجه إنكار الحقائق أو التجسيم والوثنية والثالوث..إلخ
‏وهذا اللازم العقلي للمنهج الحسي من إنكار المنطق وإبطاله التزمه ابن تيمية لسببين ...
‏-سبب معرفي وهو أن إنكاره للمعقولات والتي هي أفعال عقلية لا حسية أداة بطبيعة الحال إلى إنكار العلم الذي يتعاطى معها "المنطق"
‏لذا يبرر إبطاله للمنطق بحصر العلم في الحواس أو مارجع إليها..
‏"إن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن مايحس به الأشياء ويعرفها ، فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر مايعرف، ويعرف أيضاً بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ماهو أعظم من ذلك ، فهذه هي الطرق التي نعرف بها الأشياء ، فأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأنبياء إلا بقياس تمثيل أو مركب لفظي وليس شيء من ذلك يفيد تصور الحقيقة ، فالمقصود أن الحقيقة إن تصورها بالحد بباطنه "الخيال" أو ظاهره (الحواس الظاهرة) استغنى عن الحد القولي (طرق المنطق) وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصورها بالحد القولي"
‏مجموع الفتاوى ج9 ص28
‏يقرر هنا أن وسيلة المعرفة الحس فقط وأن المنطق والإستدلال العقلي لا يفيد في كل الأحوال
‏-والسبب الآخر هو أن في المنطق ضرر ينقض كل فلسفته سواء ببرهنته على ماينقض تصوره عن الوجود وخالقه أو بأن مجرد فقط قبوله بالمنطق يعني أنه سلم بوجود العقل وبالتالي المعقول وبالتالي أقر برتبة معرفية لا حسية ونقض صمام أمان مذهبه التجسيمي والحسي كله.
‏فهو يرى ( أن المنطق يؤدي إلى إثبات وجود لله يسلتزم وصفاً بالنقيضين ويجعله عدماً كالمعدومات والقضايا الذهنية )
‏الرد على المنطقيين ص318
‏وهذا ناجم عن ماشرحته في التدوينة السابقة من كون الوجود عنده محصور في الأجسام وكون تنزيه الله عن الجسمية وتوابعها مساوي لجعله معدوماً !
‏فهو بهذا يرى أهل السنة بل والمسلمون جميعاً يعبدون عدماً كما يردد أتباعه اليوم .
‏وهذا جميعه يلخصه تلميذه ابن القيم بقوله
‏"والمنطق لو كان صحيحاً كان كالمساحة والهندسة كيف وباطله أضعاف صوابه وأصوله وفساده وتناقض أصوله واختلاف معانيه توجب مراعاتها للذهن أن يزيغ"
‏مفتاح السعادة ج1 ص166
‏وسأشرح مثالاً يوضح أساس نقض ابن تيمية للمنطق:
‏ينقسم المنطق لقسمين التصورات والتصديقات
‏والتصورات هي أساس التصديقات وتعتمد على الكليات الخمس "الجنس والنوع والعرضين والفصل"
‏والغاية منها
‏التعريف ويجب التنبه أن التعريف هنا أنواع
‏1-الحد التام وهو يكون بعد التركيب والتحليل العقلي فنصل لحقيقة أو كنه المراد تعريفه فنصل مثلاً لتعريف الإنسان بماهيته "حيوان ناطق"
‏2-الحد الناقص نصل لبعض حقيقته العقلية ولكن ليست التامة فنعرفه ب "الجسم الناطق" وليس تاماً لأننا لم نصل لحقيقة أدق من "جسم" وهي الحيوانية في تعريفنا
‏(وهذان النوعان من الحدود الغرض منهما معرفة ذات الشيء وحقيقته)
‏3-الرسم ويكون بحقيقة عقلية أو حتى بدونها كتعريفه بحقائق حسية ككونه جسم متحرك بادي البشرة قصير الأظافر..الخ
‏(وهذان النوعان يكون الغرض منهما التمييز فقط بين الشيء وغيره لا أن نعرفه)
‏أما كيف نصل إلى الحد فباختصار نحلل الشيء عقلياً حتى نصل إلى ذاتياته ثم ندع لفظاً يدل على تلك المعاني العقلية التي هي الحد العقلي ونسمي هذا اللفظ حداً من باب أنه دال عليه
‏وهي مايشرحها الغزالي هنا:
‏"فإن قيل بماذا يكتسب الحد؟
‏قلنا بالتركيب وهو أن تأخذ شخصاً من أشخاص المطلوب بحيث لا ينقسم وننظر من أي جنس من المقولات...الخ"
‏معيار العلم/ص263
‏إذا الحد يأخذه الحاد بالتحليل العقلي ثم يضع لفظاً يدل عليه غيره به
‏فأصبحت وسائل معرفة الحد إما بالتركيب العقلي للحاد نفسه أو بالحد الكلامي الجملي الذي يكتبه الحاد أو ينطقه ليدل عليه الآخرين
‏لذا ينص المناطقة على أن طرق معرفة الحد بالحد وغيره أو بالحد ومايشبهه لتشمل الحد المنطوق وعملية الحد العقلية
‏يقول ابن سينا "والذي يكتسب به التصور هو الحد ومايشبهه" النجاة/97
‏نعود لابن تيمية ونستصحب أنه حسي ناكر للمعقول وبالتالي للعملية العقلية أساساً التي نستخرج بها الحد المنطقي
‏فحين أتى لنقض المنطق وجده هرماً بعضه فوق بعض وأساسه الحد كما شرحنا لأنه أساس التصور والتصور أساس التصديق وهذان قسمان المنطق توجه للحد ليبطله
‏ولكن الغريب أنه حاول بطريقة تدليسية حيث ادعى في رسالة نقضه مجموع الفتاوى 9/262
‏-"وأما الحد فالكلام عليه في مواضع:
‏أحدها : دعواهم أن التصورات لاتعلم إلا بالحد الذي ذكروه..
‏ويدل على ضعفه أن الحاد إن عرف المحدود بحد آخر فقد لزم الدور أو التسلسل وإن عرفه بغير حد بطل المدعى"
‏ولنا مع هذه المغالطة الشنيعة وقفة لتأمل كيف يتم التغليط بالتدليس
‏ابن تيمية يقرر أن المناطقة وقعو في الدور وهو أنهم حصروا الحد والعلم به في الحد نفسه يعني لا أعلم أن الإنسان حيوان ناطق حتى أقول لنفسي " الإنسان حيوان ناطق " ولن أقولها لنفسي حتى أعلمها فتناقضت
‏وأنا أدعوكم لوقفة ألم يقرأ ابن تيمية مراجع المنطق المشهورة في عصره والتي نقلنا منها قولهم أن التصور أو طريقة اكتساب الحد بالحد ومايشبهها وبالحد وغيره وبالحد أو التركيب العقلي"!!
‏ ألم يقرأ النجاة لابن سينا أو الميعار للغزالي بدل تأليف قول ونسبته لهم
‏فقد شرحنا أن الحاد يصل للحد بالتحليل العقلي ثم يضع له حداً يدل عليه غيره فلم يدعو ولم يحصروا الطريقة في الحد فقط بل هناك التركيب العقلي الذي شرحه الغزالي
‏ولكن ذلك ليس مستغرب على حسي ينكر التركيب العقلي ولكن المستغرب أن يدلس بنسبة ماتمناه من نفي العملية العقلية لهم رغم أنهم نصو نصاً على عكسه وشرحوا وفصلوا

‏....يتبع

الأحد، 27 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية ... الأصول المعرفية للتجسيم (3)


‏في هذه السلسلة 
‏"ابن تيمية فيلسوف المادية
‏أربع محاور رئيسية هي..:-

‏أولاً : مقدمة تمهيدية لبعض التعريفات ..
‏ثانياً : عرض لمنهج "أصالة العقل" / العقلي
‏مع توضيح أنه مبنى الفكر الإسلامي عامة
‏"أنهيناها في التدوينة الأولى"


‏ثالثاً : عرض لمنهج "أصالة الحس" / الحسي
‏مع توضيح لاختيار ابن تيمية له كمنطلق معرفي
‏"أنهيناه في التدوينة الثانية"

‏بقي عندنا المحور الرابع
‏وهو..موضوع هذه التدوينة...


‏رابعا:-عرض لتأصيل ابن تيمية واتساقه مع المنهج الحسي

‏ابن تيمية هو أحد الاسلاميين الذين شذو عن المنهج المعرفي الإسلامي الأكبر "العقلي" وأسسو منهجا مغايرا "الحسي"
‏وتعود عبقرية ابن تيمية إلى اتساقه الذاتي
‏ففي الفكر لدينا معيارين للتقييم:
‏1-اتساق المذهب الفكري داخليا 
‏2-مطابقته للواقع
‏وما أبدع فيه ابن تيمية هو تأسيس مذهب متسق داخليا و التزم بكل مبادئه حتى أنك تستطيع سرد مذهبه كما هو وتحدد ما أثبت ومالم يثبت بمجرد معرفة أصوله المعرفية كتعريفه للعقل والوجود ونحوه .
‏أما تهافته فقد كان في المعيار الثاني "مطابقة الواقع" وهو نفس تهافت المذاهب الحسية بشكل كلي التي تطرقنا إليها في عرض "أصالة الحس" والمعروضة بالردود عليها في الكتب..
‏ويضاف إليها أيضا عدم مطابقته للواقع المعرفي للشريعة الاسلامية ومعارفها ومناهجها وهذا مبسوط في كتب ورسائل العلماء الذين ردو عليه من واقع شرعي..
‏وسنقسم هذا المبحث لقسمين :
‏أ-القسم الأول تحديد أصول ابن تيمية المعرفية بناء على التعريف السابق لأصالة الحس.
‏ب-القسم الثاني فحص الاتساق الذاتي لمذهبه مع أصوله "التجسيم"

‏(أ) توافق ابن تيمية مع أصول المنهج الحسي "في ظل التعريف الذي نقلته سابقا"
‏1-حصر مصادر المعرفة في الحس وإرجاع العقل لأفعال حسية محضة:
‏كأي فيلسوف مادي بحت يحصر ابن تيمية وسائل المعرفة في الحواس لاغير سواء الحواس الظاهرة او الباطنة ويجعل العقل آلة فقط لتفكيك وتركيب الصور المخزونة التي تحفظها الذاكرة
‏ثم يعالج المعرفة الغيبية بأنها أيضا مادة "محسوسة" غائبة فيمكن التوصل إليها بالانتقال من المحسوس المشاهد إلى المحسوس الغائب.

‏حين أنكر الحسيون العقل ولزمهم إنكار القياس المنطقي لم يبقى عندهم من وسيلة معرفية سوى الحس وبهذا عرفو العقل:

‏ف "القياس عند الحسيين لايتعدى الإنتقال من محسوس الى محسوس"
‏يوسف كرم/العقل والوجود
‏نبدأ اولا بنقل القاعدة الكلية التي نقلتها في قطب "اصالة العقل" لتوضيح إحدى قواعد أهل السنه الاسلامية في المعرفة وهي مقولة الامام الرازي:
‏"اهل التوحيد والتنزيه هم الذين عزلو حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته"
‏اساس التقديس/
‏هذه القاعدة التي تثبت باختصار توجهين
‏1-العقل آلة إدراك مستقله عن الحس. 2-الوجود أعم من المادة.
‏نقلها ابن تيمية في رده على أساس التقديس
‏ورد عليها بأسلوبه المعتاد حيث يكثر الإستطراد والتكرار والحشو وتسويد الصفحات ثم ينثر رده في وسط ذلك كله
‏فشرح بوضوح ماهو العقل وماهو عمله عنده مقررا مذهبه الحسي البحت في ذلك
‏فيقول في الرد:
‏"من المعلوم أن العلم له طرف ومدارك وقوى ظاهرة وباطنة في الانسان
‏فإنه
‏-يحس بالأشياء ويشهدها
‏-ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله
‏-ثم يقيس ماغاب على ماشاهد"
‏ابن تيمية/الرد على أساس التقديس/ "1/135"

‏فكما ترى هذا هو العقل والإدراك عند ابن تيمية مطابق تماما للعقل عند الماديين الغربيين الذي نقله د.كرم "انتقال من محسوس إلى محسوس"
‏فهومجرد إدراك المحسوسات ثم القياس عليها انتقالا من محسوس مشاهد الى محسوس غائب عبر الخيال 
‏وهذه العقلية بائدة معرفيا الآن خلافا للسابق فبعد سقوط الوضعية المنطقية والحسية البحته تحت وطأة العلم الحديث لم تعد هذه العقلية صالحه للإستعمال وهي سبب تلفيق الماديين الجدد منهجهم تهربا من الإلتزام بنظريتهم في المعرفة..

‏نعود لابن تيمية لنرى تأكيده على الحسية في رده على الرازي..
‏فالرازي يقرر منهج المسلمين في المعرفة وهي أن العقل مختص بنوع من المعارف لايتعلق بها الحس ولا الخيال لأنها في ذاتها وجود غير محسوس مثل وجود الله وصفاته
‏وهذا لايوافق هوى ابن تيمية الذي يحصر طرق المعرفة في الحس والموجود في المحسوس ويعتبر ماسوى ذلك عدم ووهم..
‏فيرد ابن تيمية قائلا:
‏"الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين ادراك وادراك ولابين سبب وسبب..وجعل بعض ذلك مقبولا وبعضه مردودا بل جعل المردود هو قول غير الحق"
‏ويقول
‏"لو كان بعض أجناس الإدراك باطلا في حق الله تعال وحكمه غير مقبول كان رد ذلك مطلقا واجب"
‏يرد ابن تيمية معتبرا أن تفريق الإمام الرازي بجعل الله ليس موضوعا للخيال والحس وإنما وسيلة معرفته والحكم عليه العقل امر غير مقبول "لأنه لافرق بين إدراك وإدراك"
‏وهذا اتساق مع أصله في حصر المعرفة بالحس لاغير وكلها عائدة اليه
‏وفي الإقتباس الثاني تأكيد على أن المعرفة عنده فقط بالحس لأنه لاوجود حقيقي إلا للمحسوسات فيرى أننا إن أبطلنا حكم الخيال والحس في بعض المعارف فإن ذلك يؤدي إلى ابطال المعرفة.
‏-وقد نقلنا في التدوينة الأولى المنهج العقلي من علماء العقيدة المسلمين الذين يبطلون هذا التأصيل-
‏ويوضح ابن تيمية أكثر هذه الحسية بقوله:
‏"أما منعهم الحس الباطن _الخيال_ من تصور الأمور الإلهية فهو خلاف مادل عليه القرآن"
‏بل يهاجم القاعدة العقدية الإسلامية التي جرت مجرى التواتر لشهرتها وسبق نقلها في التدوينة الأولى وهي
‏"كل مافي بالك فالله بخلاف ذلك"
‏قائلا عنها:
‏":لو كان ذلك باطلا في الامور الالهية لكان نفي ذلك من اعظم الواجبات في الشريعه
‏ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من """جنس مايقوله بعض النفاة""" ماتخيلته فالله بخلافه"

‏-وفي رد ابن تيمية على (كلام الرازي الذي قرر فيه أن العقل غير الخيال بمعنى أنه يمكنه إثبات ماليس بمتخيل وماهو خلاف الشاهد" فمثلا كوننا نشاهد من الموجودات أجساما فقط فقد يمكن اثبات وجود مخالف وليس بجسم عقلا)
‏يرد ابن تيمية مقررا استحالة ذلك وأن العقل هو نفسه الخيال فماحكم باستحالته لعدم تخيله حكم العقل "بمفهومه الحسي عنده" أنه محال
‏يقول ابن تيمية:
‏"الوجه الثاني: أن هذا نسبة هذا، والمعلوم والمعقول والمتخيل نسبة واحدة"
‏بل يؤكد ابن تيمية بشكل أوضح هذا المبدأ ويقول للرازي
‏"إن قولك بثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال، كقولك بثبوته على خلاف حكم العقل والعلم"
‏فلحسيته المتطرفه جعل كل مالايستطيع الخيال إدراكه = أمر غير معقول.

‏ماسبق وضح معنى العقل الذي عند ابن تيمية ووسائل المعرفة التي يقبلها دون غيرها بوضوح
‏وهي مطابقة تماما للمنهج المادي الغربي وأسس فلاسفته ويمكن الرجوع للتدوينة السابقة و لكتابنا المعتمد "يوسف كرم /العقل والوجود" للمقارنة

‏فعلى هذا الاصل المعرفي الذي يخالف منهج المسلمين العقلي "كما عرضناه في التدوينة الأولى" بنى ابن تيمية معتقده الديني ونظرته المعرفية ورؤيته للوجود
‏وهو الأساس المعرفي الناتج عن "عقيدة التجسيم" والذي بسببه وسببها اضطر ابن تيمية إلى مهاجمة كل الأدلة العقلية على وجود الله وابطالها لأنها خالفت أصله في عدم وجود العقل بالمعنى المتعارف "اصالة العقل" وانسد الإستدلال العقلي على وجود الله عنده فاستعاض بنظرية "الفطرة" بحسب تفسيره الشخصي لها لتكون منطلق المصادرة على المطلوب في اثبات وجود الله بالرغبة لانعدام طرق الاستدلال ..

‏(وقد أطلت فيها لأنها مورد تزييف وتدليس من بعض السلفية -الجدد المعاصرين- الذين دفعهم الحرج لكون المناخ العلمي العام في صف العقلانية إلى تقرير المعقولات والعقل والمنطق والدلالة العقلية مع تزييف منهج ابن تيمية وفي ادنى الأحوال تحاشي عرضه..
‏لأن تقرير ماسبق يبطل جميع عقيدة ابن تيمية رأسا وأدلتها عنده بل يبطل أيضا حججه التي صنف المجلدات المحشوة لعرضها ونقض أقوال غيره ثم يصورون ذلك على انه اتساق معها!!)

‏2-حصر الوجود في الوجود المادي وماسواه عدم..
‏لزم من المبدأ المعرفي للحسيين لازم وهو حصر الوجود في المادة بمعنى أن ماليس مادي مجسد مجسم مركب فليس موجودا..
‏ولم يخالف ابن تيمية الاتساق الذاتي مع مبدأه المعرفي في ذلك فقد امتد إلى هذا المستوى وحصر الوجود "كله بمافيه الخالق والمخلوق" في المادة "الأجسام والأعراض" وهو أساس وصفه "بالتجسيم" من العلماء
‏فقد جاهد في إنكار إمكان وجود موجود ليس محسوسا أو مجسما مركبا ممتدا في الابعاد
‏وأعتبر أن ماليس كذلك فهو عدم لذا نجد ردوده على الاخرين تدور بين " جعلتم الله مجودا في الأذهان /عبدتم عدما/عطلتم/معطلة...الخ"

‏فكلها تدور على أن من خالفه وأثبت موجودا ليس جسما ولا محسوسا فقد أعدم وجود الله لأن الوجود عنده = المادة "الأجسام" فمن نزه الله عن المادة ومشابهتها فقد نفى وجوده
‏- نقل ابن تيمية عبارة الرازي في رده على أساس التقديس ليبطلها ويرد عليها
‏يقول الرازي:
‏"وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال"
‏وهذا كلام الرازي يقرر فيه أنه عقلا يمكن اثبات موجود ليس من جنس المحسوسات ولا الماديات ولا المتخيلات..
‏وهو ما لايرضاه ابن تيمية رأسا فنقل العبارة لينقضها وفي خضم نقضه قرر قسمته الحاصرة التالية
‏(الوجود كله سواء مانشاهده أو يغييب عنا =المحسوس=المادة=الاجسام)
‏يقول ابن تيمية ردا على إثبات الرازي والمسلمين جميعا وجودا مغايرا للمحسوس عبر العقل بأن ذلك محض صناعة عقلية لاوجود له في الخارج
‏فيقول
‏"إن أراد أنه من باب مايعقله القلب من الأمور المعقوله...واذا كان كذلك فمن أراد هذا المعنى فقد جعله من باب الموجودات في الاذهان لا في الأعيان"
‏ويكمل ابن تيمية رده قائلا
‏"وهذه حقيقة قول الجهمية (يعني قول المسلمين بأن الله عدم لأنه غير مادي)...فمالايعرف بشيء من المحسوس لايكون إلا معدوما"

‏وفي نص أوضح بعد تطويل يقول ابن تيميه في التأسيس ردا على إثبات الرازي لموجود ليس جسما ولامادة:
‏"الموجود القائم بنفسه لايكون إلا جسما ومالايكون جسما لايكون إلا معدوما ومن المعلوم أن هذا هو الاقرب للفطرة والعقول"
‏فمن نزه الله عن المادة يعتبر عند ابن تيمية ناف لوجوده وهذا أوضح من الشرح في كون الوجود عنده مادي ومن قرأ كتابنا الذي اعتمدناه تعريفا للمذهب الحسي سيجد في نقول يوسف كرم عن الفلاسفة الغربيين الماديين مايكاد يكون نسخا ولصقا لكلام ابن تيمية وهذا لازم الاشتراك في الاصول المعرفية.

‏هذا من ناحية عقلية وأما من ناحية شرعية فقد هاجم ابن تيمية جميع المفسرين والعلماء لأنهم منزهة فقد فسرو "الأحد والواحد والصمد" بأنها دلالات على نفي المقدار الذي هو الجسم المادي عن الله وسأنقل وجها واحدا لمهاجمته كمثال

‏فسر المفسرون دلالة اسم الواحد بأنه نفي للمقدار"الحجم" والانقسام وغيرها من لوازم الجسم عن الله وبأنه موجود ذا حقيقة مغايرة للوجود المخلوق المادي
‏ومن هذا قول الإمام القرطبي:
‏"الواحد هو الذي لايتجزأ ولايتثنى ..والله واحد بمعنى أنه يستحيل "تقدير الانقسام في ذات" "
‏المقصد الأسنى/3/133
‏وهذا تفسير جميع المفسرين لاسم الواحد والأحد والصمد
‏من كونها دلالة على نفي المقدار والامتداد عن الله وهذا معنى "نفي تقدير الانقسام" لأن كل متجسد يمكن تقدير او تخيل انقسامه الى كميات وزنية وطولية..

‏أما ابن تيمية الذي يثبت ذلك كله لله بناء على اصله المعرفي فهاجمهم فيقول:
‏"أما مافسر به هؤلاء اسم الواحد من التفاسير .. باطل بلاريب شرعا وعقلا ولغة:

‏أما في اللغة.. فالقرآن ونحوه من كلام العرب متطابق كما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرا من المخلوقات بالواحد ويكون ذلك جسما..
‏وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لاينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم... بل لايوجد في اللغة اسم واحد إالا على ذي صفة ومقدار"
‏في هذا النص أوجه مهمة
‏أهمها مهاجمة من نفى الحجم "المقدار عن الله" واعتباره أن اسم الواحد لله دليل على ان الله له مقدار "حجم"
‏أما الثاني فهو اسلوب ابن تيمية في التلبيس والتزييف
‏أولا يهول ويرتكب مغالطة التشنيع حين يقول "في لغة العرب وسائر اللغات" فهل هو يعرف سائر اللغات حتى يسوق هذا التشنيع الذي يبتهج به من تم استغفاله!
‏الثاني زيف حجته نفسها في معرفته بلغة العرب وكونهم لايطلقون الواحد الا على ذي مقدار وحجم!!
‏ولن نذهب بعيدا لقواميس اللغة لنرى هل حجته حقيقية أم زائفة بل يكفينا نفس القرآن
‏ففيه
‏"فيميلون عليكم ميلة واحدة" و "قل إنما أعظكم بواحدة" و "لاتدعوا اليوم ثبورا واحدا"
‏...الخ من اطلاق وصف الواحد على ماليس جسما ذا مقدار 
‏وامثال هذه التزييفات هي مايتم التلبيس بها على اتباعه الذين لايكلفون أنفسهم البحث خلفه لأنه المعصوم والمعيار..

‏يكمل ابن تيمية مهاجمة من نفى الحد والمقدار عن الله تأكيدا بقوله
‏"وأما الشرع فمن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات ((وسلب ادراكه بالحواس ولانفي الحد والقدرونحو ذلك من المعاني"
‏بيان التلبيس/1/484

‏ويكمل ابن تيمية معترضا على الرازي:
‏"قال-أي الرازي- الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة. وقوله "أحد" مبالغة في الوحدانية. فكان قوله أحد منافيا للجسمية.

‏يقال له: هذا يقتضي أن شيئا ممايقال له جسم لايوصف الوحدة.. ومعلوم أن هذا خلاف مافي الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب 
‏قال تعالى
‏"خلقكم من نفس واحدة"
‏... واذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وآدم جسم من الأجسام وقد سماها الله نفسا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة"
‏تلبيس الجهمية/448

‏وقد عرفنا في الاقتباس الماضي تلبيسه في الاحتجاج باللغة وهنا تلبيسين جدد يوضحان بعض مسالكه التي يكثر منها
‏اولا اللعب بالمصطلحات:
‏فاللغويون والمتكلمون والمفسرون نصو على أن للواحد معاني منها الواحد الحقيقي الذي لايقبل الانقسام مطلقا
‏ومنها الواحد الاضافي الذي لايقبل الانقسام من وجه فقط
‏فمثلا الماء واحد من حيث انه لايقبل الانقسام من جهة حقيقته المائية ولكنه متعدد ان قسمناه من جهة الكم في قوارير مثلا
‏والحيوان واحد اضافي من جهة الماهية الحيوانية ولكنه متعدد من جهة النوعية كالانسان والخيل..
‏وهذا كله راجع للغة والعقل ومبسوط في التفاسير والكتب ولم يخالف فيه سوى ابن تيمية لغويا "كما رأينا في ادعاءه الذي خالف حتى لغة القرآن" وعقليا من حيث منهجه الحسي
‏لذا قوله "السلف والعلماء والمتكلمون..الخ" تشنيع مطابق لما حللناه اعلاه حين شنع "بمخالفة التفسير لكل اللغات!!"
‏ولو تتبعته لم تجد لاسلفا ولاخلفا كما تتبعنا كلامه عن سائر اللغات فوجدناه مخالف للعربية نفسها فضلا عن الباقي!
‏وهذا نفس منهج اتباعه اليوم حين يقول لك أحدهم هذا ماقاله ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
‏محاولين تصوير الكثرة ولو سألتهم من غيرهم؟ لما وجدت احدا لكونه منهج شاذ يفتقر قائم على بضع افراد 

‏ونكتفي بهذا القدر فالمبحث معرفيا غير ضروري لأنه يكفي العاقل إثبات الأصول المعرفة الحسية ليعرف حقيقة الوجود التجسيمي عند الحسي وأنه لايعترف إلا بالمادة وموجود "مادي مجسم" ولكن لأننا قد نصادف غير العقلاء حقيقة أو معاندة أضفنا هذا القسم واختصرناه.

‏قابلنا حاليا منهج ابن تيمية مع تعريف "يوسف كرم" للمنهج الحسي الذي نقلناه في التدوينة الثانية "أصالة الحس"
‏في نقطتين منه هي.
‏١-نفي العقل بحصر المعرفة في الأصول الحسية
‏٢-حصر الموجودات في المادة.

‏وبقي من التعريف قسمان مهمان لكونهم أساس التعامل مع العلوم من قبل هذا المنهج وهما
‏١-نقض المعاني المجردة والكليات والمنطق
‏٢-نقض اللغة
‏ وسنكملهما في التدوينة القادمة

‏...يتبع

الجمعة، 25 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية.. أصالة الحس والمذهب المادي (2)

‏بعد أن وضحنا _في التدوينة الأولى_ منهج أصالة العقل وملامحه الرئيسية العامة والتي منها إثبات مرتبة إدراكية عقلية غير راجعة للحس"والخيال" وبالتالي إمكان التوصل لمعارف عن طريقه لا نتوصل إليها حساً إما لأنها غائبة للبعد أو لأنها موجودات غير محسوسة أصلاً ومجردة..
‏وعرفنا أنه يلزم هذا المذهب أن الوجود لم ينحصر في المحسوس وأنه المنهج الوحيد الذي ينتج معرفة علمية سواء تجريبية أو غيرها ، ثم ختمنا بتوضيح كونه المنهج المعرفي الذي هو منطلق الإسلام ، ننتقل هنا للقسم الثالث من السلسة وهو عرض للمنهج المقابل للمنهج العقلي وهو " أصالة الحس "  .
‏ثالثاً :- أصالة الحس
‏للحديث عنها سأنقل تعريفها من كتاب د.يوسف كرم الذي تصدى فيه لعرض أسس المذهب الحسي ومناقشته.
‏يقول :
‏"فريق مهم من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة ، وأن مايسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها -ترجع للحواس بمعنى أنه مجرد الخيال-
‏هؤلاء الفلاسفة يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة
‏ويدعون بالماديين متى دار الكلام على الوجود وذلك لقولهم : لا وجود لغير المادة ، ولامعرفة دون الحس
‏ويدعون بالإسميين أو اللفظيين لقولهم : مالمعاني إلا أصوات في الهواء , أي أسماء و ألفاظ فحسب
‏وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماءح ذات دلالات واسعة وغامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها"
‏يوسف كرم/العقل والجود/ص6
‏ماسبق تعريف دقيق سنقوم بتحليله لتصور المنهج التجريبي الحسي المادي بشكل أدق والتعرف على ملامحه :-
‏1-يحصر وسائل المعرفة في الحس فقط أو مايرجع إلى الحس مثل الخيال
‏2-يفسر العقل بأنه عمل يرجع إلى الحس بطريقة أو أخرى وبالتالي ليس قوة إدراكية مستقلة العمل والدلالة
‏3-يحصرون الوجود في المادة فيحكمون على الغائب بالشاهد لأنه لا توجد حقيقة في الوجود مخالفة لما نشاهده "أي لامادية"
‏4-فقدُ العقل لدلالته العلمية وجعله إسماً يطلق على معاني واسعة وغامضة وغير محدده.
‏5-لزمهم من مبدأهم الحسي إنكار المعاني المجردة وكذلك المعاني اللغوية والعلمية و اعتبروها مجرد ألفاظ فارغة لأن المعنى نتاج التجريد العقلي لا التصور الخيالي الحسي وهم معرفياً ينكرون "أصالة العقل واستقلاله"
‏وهذا أساس نقدهم لـ اللغة " فهي تحوي معاني لا مثال لها محسوس ، مثل قولنا الإنسان والشجر واللون ، فهي معاني مجردة فلايوجد في الخارج الإنسان وإنما يوجد أحمد وعمر ومجموعة أفراد مختلفة جزئية محددة "
‏وكذلك أساس نقدهم للمنطق
‏فالقياس المنطقي و الإستدلال الذي هو أساس المعرفة العقلية لايوجد إلا بانتقال من مقدمتين "و وسط كلي مجرد" إلى حكم ونتيجته..
‏فنقول :
‏العالم حادث
‏لكل حادث مُحدث
‏_إذن العالم له محدث
‏أو نقول:
‏الحديد معدن
‏وكل معدن يتمدد بالحرارة
‏-الحديد يتمدد بالحرارة
‏فنجد "حادث" و "معدن"
‏عبارة عن معاني مجردة لاوجود محسوس لها
‏ونجد "كل حادث ، كل حديد ، وكل ماء..إلخ "
‏من المقدمات الكلية التي هي أساس القوانين العلمية
‏مقدمات غير معتمدة على التجربة والإستقراء لأنه لا أحد جرب  "كل الماء ولا كل المعدن" ولا وجود أصلاً للكل إلا في العقل وعبره ..
‏وهؤلاء أنكروا الكليات والمعاني المجردة لعدم وجودها الحسي ولأنها نتاج فعل عقلي فلزمهم أن القياس لاوجود له ومعرفته وهمية لذا اكتفوا بإرجاع المعارف كلها للإستقراء التجريبي ووقعوا في تناقضات مؤلمة جراء هذا التشوه بإنكار العقل والمنطق .
‏فالكليات مثل "الإنسان..الشجرة..إلخ " كما قلنا هي نتيجة تجريد عقلي للجزئيات المحسوسة الخارجية "أحمد وخالد وهذه الشجرة وتلك الشجرة"
‏حيث يتوصل العقل لماهيتها بالتجريد فيستخرج معنى كلي لا وجود له في الخارج المحسوس وهذا المعنى هو أساس "التعميم العلمي" و أساس المعرفة البشرية حتى التجريبية منها وإنكاره كما يقول يوسف كرم :
‏"الحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير"
‏فلم يعد هناك حتى استقراء تجريبي منتج لأنه لو ظللنا نجرب لن نصل لتجربة "كل الماء" الموجود والذي حيوجد لنقول "كل ماء يغلي"
‏فالإستقراء نفسه والتجربة نفسها قائمة على أرضية عقلية استدلالية هي ذاتها التي ينكرها الحسيّ ..
‏ومختصر تهافت هذا المنهج وعقمه يلخصه بقوله :
‏" نجمل تهافت مذهبهم بقولنا : أنه من جهة يزعم أنه مناصر للتجربة ومتابعة الواقع المحسوس ومن جهة أخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضروريتها فيدع العلم بلا إسناد "
‏كرم/العقل والوجود/ص40
‏فالعلم هو قوانين "كلية وضرورية" والكلية والضرورية ليست نتاج الحس وهذا متفق عليه فمتى آمنا بالعلم آمنا بالعقل ومتى آمنا بالعقل آمنا بوجود الله..
‏وهذا أحد اسباب تمسك الملحدين بالمنهج المادي لقطع الطريق الموصل للعلم بالله وفاتهم وربما تناسو عمداً أنهم بذلك قطعو طريق الإيمان بالعلم التجريبي نفسه..
‏فكما نرى أنه منهج قاد أصحابه إلى إنكار المعرفة بأكملها وأما تمسكهم بالتجريبية وواقعيتها تمسك ظاهري غير مبرر ودليل على تناقض داخلي في نفس المذهب المادي.
‏"
‏هذه أبرز سمات المذهب المادي التي يمكن أن نستشفها من تعريف د.يوسف كرم..
‏ومن أراد النقول الفلسفية الغربية فعليه بالرجوع لنفس الكتاب "العقل والوجود" فهو عرض ونقض لها ووضح تهافت هذا المنهج الفكري وعقمه في إنتاج المعرفة مع إستقراء تام يليق بصاحب أعظم كتب تأريخ الفلسفة العربية..
‏بعد توضيحنا لمعالم منهج "أصالة الحس" المعرفية الكبرى والتي تميزه عن غيره
‏سنشرع في التدوينة اللاحقة بعرض تأصيل ابن تيمية المعرفي ومقابلته مع المنهج الحسي وتعريفه الذي تطرقنا له..
‏وكذلك فحص اتساق مذهبه الداخلي بالتزامه التام بمنهجه الحسي .



...يتبع

الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية..مقدمة (1) ‏


‏تبدأ جميع النظرات الفكرية بمافي ذلك المعتقدات من قاعدة الأساس المعرفي الذي به يحدد الشخص حدود معرفته وطرقه الصالحه للتوصل لها ثم يصل عبرها لتصوره للوجود بشكل عام ومناهج التعاطي معه وهذا الأساس يسمى "نظرية المعرفة"
‏ويمكن تقسيمها لقسمين متوازيين يندرج تحتهما التوجه الإنساني الفكري
‏وهذان القسمان هما :-
‏1-أصالة العقل
‏2-أصالة الحس
‏وسنقوم في هذه السلسلة بعرض مطول ومبسط لتوضيح هذه المسألة بشكل يسير وواضح حتى لغير المختصين
‏وستكون خريطة العرض من أربع اقسام رئيسية:-
‏أولاً : مقدمة تمهيدية لبعض التعريفات ..
‏ثانياً : عرض لمنهج "أصالة العقل" / العقلي
‏مع توضيح أنه مبنى الفكر الإسلامي عامة
‏ثالثاً : عرض لمنهج "أصالة الحس" / الحسي
‏مع توضيح لاختيار ابن تيمية له كمنطلق معرفي
‏رابعاً : عرض تأصيل ابن تيمية واتساقه مع أصوله الحسية

‏وتحت الأقسام الرئيسية السابقة تندرج تفريعات الغرض منها التبسيط للعموم لا التطويل ..
‏كما اعتمدنا كتاباً معيناً لعرض المذهب الحسي في هذه السلسة وهو كتاب "العقل والوجود" للفيلسوف يوسف بطرس كرم
‏لأسباب منها التيسير للرجوع إليه وسهولته لكونه حديث نسبياً واعتماد د.يوسف كفيلسوف ومؤرخ فلسفة دون منازع ولأنه مسيحي رغم ترجيحه لمنهج العقلانية وهذا يخفف من مشاغبة " التحيز والتواطؤ التي قد يدّعيها البعض في العرض"

‏أولاً :- نبدأ بمقدمة تعريفية لبعض المصطلحات:

‏(أ) للإدراك البشري مراتب
‏1-الحس
‏وهو الإدراك الحسي المباشر سواء بالحواس الظاهرة -البصر والسمع والشم والذوق واللمس- أو الحواس الباطنة -كالحس بالجوع والخوف-
‏2-الخيال
‏بعد أن يدرك الإنسان المحسوسات بالطرق الحسية ويحتفظ بها في ذاكرته يمتلك قوة إدراكية للتصرف في صورها بالتركيب والتفريق وهو مايسمى الخيال أو الوهم عند البعض
‏وهذه المرتبة كما نرى لا تتعدى الحس فهي ليست مستقلة ولامتجاوزة له بل هي أسيرة له محدودة بحدوده
‏3-العقل
‏وهو القوة المدركة للكليات المجردة وهي تتجاوز الخيال والحس وتقع في المرتبة العليا من الإدراك فبها يدرك الإنسان ماليس مادي أو محسوس أو ذا صورة وشكل فيدرك مفاهيم " كالإنسان والشجرة والحيوان وعدم اجتماع النقيضين " لا وجود لها في الخارج وبالتالي لا وجود لها في الخيال لأنها مفاهيم كلية ومافي الخارج جزئيات فقط " أحمد  وهذه الشجرة المعينة وهذا الحيوان المعين "
‏وكذلك لا وجود لها في الخيال لأنه ليس إلا لوحة لتفكيك وتركيب الصور التي احتفظت بها الذاكرة للمحسوسات الخارجية

‏(ب)ماذا نعني بأصالة العقل وأصالة الحس؟
‏نعني بها معاني منها الإستقلالية بالفعل والأثر أو حصر الأثر بالشيء لوحده
‏-فأصالة العقل هو منهج معرفي أثبت للعقل إستقلاليته بالوصول لمعارف قد لا يصل إليها الحس
‏إما - وهذا مهم جداً - لأنها غائبة عنه للبعد فهي في ذاتها محسوسة ولكنه قصر عن الوصول لها و حسِّها
‏أو لأنها أصلاً ليست من جنس مايتناوله الحس ، بمعنى ليست محسوسات في ذاتها

‏-أما الإتجاه الموازي الآخر وهو أصالة الحس فهو اتجاه حصر المعرفة فقط بالحس ونفى كل معرفة لاترجع إلى الحس واعتبر العقل اقصى مالديه هو " مرتبة الخيال لأنها ترجع إلى الحس" وماعداها إعدام محضه ومعارف جوفاء وهمية

‏ثانياً :-أصالة العقل
‏سنبدأ باستعراض المنهج المعرفي الذي يثبت "أصالة العقل" لكونه هو المنهج المعرفي الإسلامي الذي لم يشذ عنه إلا النوادر.
‏يثبت هذا المنهج أصالة العقل وبالتالي يثبت الكليات والمعاني المجردة التي هي أساس فلسفي للنظريات العلمية التجريبية والعقلية على حد سواء ويثبت مناحي إدراكية قد توصل لمعارف  (ليست محسوسة ولامتخيلة ) عبر القياس المنطقي والإستدلال العقلي بالمعلول على علته
‏لذا هذا المنهج يفرق بين التصور والتخيل فالتصور هو إدراك الشيء سواء كان متخيلاً أو لا فليس من شرط صحة الادراك والحكم أن يمكن تخيله .
‏ويعبر عن هذا الخلاف د.يوسف كرم بقوله:
‏" إن الخلاف بيننا وبين الحسيين هو في إجهادهم إرجاع المعنى المعقول إلى الحس ونفيه محتجين بذلك أنه لا يمكن تصوره وهم يقصدون أنه لا يمكن تخيله"
‏يوسف كرم/العقل والوجود/ص17

‏لذا لزم هذا المنهج منهج آخر وجودي " أي تصور للوجود " وهو أن الوجود أعم من المحسوس المادي وأن العقل يدرك الوجود اللامادي بطرق معينة
‏ويكفي هذا الإستعراض السريع لكون التدوينة غير مخصصه لذلك ولكن سنعقب بنقول لأئمة السنة الممثلين للمنهج الإسلامي المعرفي .. سنلاحظ فيها جميع ماسبق :-

‏1-إثبات العقل كوسيلة لمعرفة أصلية غير راجعة للحس
‏2-فك الإرتباط بين الخيال والعقل وإثبات وجود غير متخيل وبالتالي ليس محسوساً
‏3-إثبات إمكانية إدراك شيء عبر وسائل عقلية بحته كالقياس الكلي المنطقي

‏يقول الحجة الغزالي مفصلاً ماسبق برشاقة:
‏" نسبة الموجودات إلى مداركنا منقسمة إلى محسوسة و إلى معلومة بالإستدلال لا تباشر ذاتها بشيء من الحواس ، بل أكثر الموجودات معلوم بالإستدلال عليها بأثارها ولاتحس ، فلا ينبغي أن يعظم عندك الإحساس وتظن أن العلم المحقق هو الإحساس والتخيل ،  وأن مالا يُتخيل لا حقيقة له .. ولا ينبغي أن تُنكر دلالة العقل على أمور يأباها الخيال "
‏الغزالي / معيار العلم ص38
‏لخص الغزالي أسس المنهج الفكري الإسلامي الذي هو عماد الدين والعقيدة فمن هذا المنطلق المعرفي تأسست مناهج وعلوم المسملين جميعها بدءاً من المعتقد إلى اللغة مرورا بالأصول ومنه توسعت المعرفة البشرية بعد أن دفعها الإسلام لأن تتحرر من بلادة الحس وأسر الخيال انطلاقاً من العقيدة الصافية من شائبة الوهم والخيال وعلائق الحس " المادية "..
‏يقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة عن الله:
‏" لا تدركه الأوهام ولاتبلغه الأفهام "
‏إثباتاً بأن الله منزه عن الوهم والخيال الذي لا يتعامل إلا مع المحسوس وبالتالي أنه حقيقة وجودية مخالفة للمحسوس فلا يمكن للوهم والخيال التعامل معها وإنما العقل وحده عبر الإنتقال من أثره إلى بعض الأحكام العقلية الحاكية عنه إثباتا  ونفياً .
‏فنعرف من دلالة حدوث العالم عبر تغيره وتركبه أن له خالق أحدثه ليس من جنسه منزهاً عن التغيّر والتركّب والحدود والجسمية ونعرف من وجود العالم قدرته ومن نظامه المخصص بمقادير معينة إرادته وعلمه وحياته ومن شريعته كلامه وأنه سميع بصير حي لا يموت باقٍ وقديم لا أول له ولا انتهاء دون زمان ومكان .
‏ونقف عند حدود العقل دون شهوة تحكيم الخيال ومحاولة إشباعه
‏يقول الحجة الغزالي:
‏" فإذا عرضت على نفسك علمك بصانع العالم وأنه موجود لا في جهة ومكان ، طلب الخيال له لوناً وقدراً وقرباً وبعداً واتصالاً بالعالم أو إنفصالاً عنه إلى غير ذلك مما شاهدت في الأشكال المتلونة... فإذا عرفت إنقسام الموجودات الى محسوسات وإلى معلومات بالعقل لا تباشر بالحس والخيال . فأعرض عن الخيال رأسا وعوّل على مقتضى العقل"

‏ويقول الإمام الرازي "أهل التوحيد والتنزيه هم الذين عزلوا حكم الوهم والخيال عن الله وصفاته"
‏وجرى على ألسنة الأئمة قولهم "وكل ماخطر ببالك فالله بخلاف ذلك"
‏تأكيداً على أن خواطر البال التي هي عبارة عن متخيلات ومحسوسات لاعلاقة لها بالله ولا بصفاته.
‏أما تعريف العقل وإثبات أنه أحد طرق المعرفة الأصلية فهو مبثوث في كتب المعتقد من عصر التدوين إلى اليوم فيقول الإمام النسفي في أول سطور عقيدته الشهيرة
‏"أسباب العلم عند أهل الحق ثلاث الحس والخبر الصادق والعقل"
‏وعلى ضوء ماسبق تتضح نصوص عقائد المسلمين المتواترة من عهد السلف "خلافاً لمن شذ عنهم ممن ندر"
‏فنجدهم يثبتون مايمكن أن يحكم بصدقه العقل ولا يستطيع الخيال تصوره..

‏يقول الإمام إبن عساكر حاكياً عقيدة اهل السنة والجماعة
‏"ولا يقالُ متى كانَ ولا أينَ كانَ ولا كيفَ، كان ولا مكان، كوَّنَ الأكوانَ ودبَّر الزمانَ، لا يتقيَّدُ بالزمانِ ولا يتخصَّصُ بالمكان، ولا يشغلُهُ شأنٌ عن شأن، ولا يلحقُهُ وهمٌ، ولا يكتَنِفُهُ عقلٌ، ولا يتخصَّصُ بالذهنِ، ولا يتمثلُ في النفسِ، ولا يتصورُ في الوهمِ، ولا يتكيَّفُ في العقلِ، لا تَلحقُهُ الأوهامُ والأفكارُ، (لَيْسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) "
‏فقد أثبت ماحكم به العقل لله من إثبات وجوده ثم إثبات مخالفته للمحسوس ثم إثبات بعض مايتصف به ممادل عليه أثره وأكد على أن طريق ذلك معرفة عقلية محضة فوق الحس ، فليس الله موضوعاً للحس والخيال كما أن العقل ليس هو محض التخيل والاحساس وأيضاً ليس الوجود حكراً على المحسوس المادي حتى يتساوى نفي التخيل مع نفي الوجود ..
‏وهذه المنهجية أصبحت شبه مُسلَّمَة في العلم الحديث ، حتى أن بعض الحقائق التي يتوصل إليها عقلاً كحد الكون تجد المتخصصين ينصون على استحالة تخيل حد مكاني ليس خلفه مكان ولكن ذلك لا ينفي واقعية تحققه خارجاً عبر البرهان العقلي أو الحسابي " كما في فيلم وثائقي شاهدته عن نسبية أينشتاين "

‏ويجب التنويه إلى أن المنهج السابق رغم أنه منهج الجماعة وهم المعروفون بأهل السنة إلا أنه لم يقتصر عليهم ، فهناك فرق افترقت عنهم لتفاصيل إما سياسية وإما فكرية إلا أنهم لم يخالفوا في القواطع المنهجية الكبرى " أصالة العقل " فهو تقريباً منهج الإسلام بكل طوائفه من سنة ومن شيعة وزيدية وأباضية ومعتزلة
‏ويُستثنى من ذلك بعض القليل ، كالكرامية قديماً ثم أتباعهم مثل ابن تيمية ومن اتبعه حديثاً ممن تسمو بالسلفية أو الوهابية "
‏وسنفصل في قطب " أصالة الحس " الحديث أكثر عنهم .

...يتبع

ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. إثباته الحد والتحيز/ التركيب / والحجم والثقل 4

بعد اكمال السلسلة الأولى في الأصول الفلسفية والمعرفية لعقيدة ابن تيمية بدأت في كتابة سلسلة أخرى توضح فروع تلك الاصول التي اتسق فيها ابن...