الأحد، 19 نوفمبر 2017

ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. إثباته الحد والتحيز/ التركيب / والحجم والثقل 4

بعد اكمال السلسلة الأولى في الأصول الفلسفية والمعرفية لعقيدة ابن تيمية بدأت في كتابة سلسلة أخرى توضح فروع تلك الاصول التي اتسق فيها ابن تيمية مع منهجه الحسي مقررا عقيدة تتفرع على أصوله بانطباق سليم معرفيا فلم يتناقض فيها
وغيرت في هذه السلسلة طريقة الطرح بحيث لايقتصر على ابن تيمية بل يكون المحور الاساسي هو ابن تيمية ولكن يتم الاستعانه بكلام أتباعه وذلك لغرض قطع الطريق أمام مغالطة وتشغيب غير مستغرب من بعض المتخبطين مثل (هذا فهمك أنت لابن تيمية لافهمنا).
وبدأت السلسلة بثلاث تدوينات هي:

وهذه الرابعة:-

-اثبات المحدودية والتحيز:
المحدودية من لوازم الجسمية فلايوجد جسم ليس محدودا ولا متحيزا وكذلك العكس،
ومن أشنع العقائد التي قررها ابن تيمية عقيدة (الحد) لله "تعالى عن ذلك علوّا كبيرا"
وقد تبعه أتباعه عليها ورغم أنها لاتحتاج لتقرير وحدها فيكفي ما أُثبته سابقا من كونه جسما له أعضاء وأبعاض (إلا أنه خصّ اثبات الحد والحيز لله بمزيد عناية ،حتى لايُخلط بينهم وبين من قد يثبت لله بعض عقائد التجسيم وينفي الحد عنه فيتناقض).
لذا لكمال الاتساق وتأكيد الجسمية أكد عليها ابن تيمية حتى خرجت مؤلفات كاملة لإثبات هذه العقيدة ك "إثبات الحد لله وأنه جالس قاعد على العرش" الذي روّجه وطبعه التيمية وكذلك كتبهم نفسهم مثل "الرد على منكري الحد من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية وغيرها من المؤلفات.
يقول ابن تيمية مناقشا القاضي أبي يعلى الذي أثبت أو نقل إثبات الحد لله من جهة التحت أي من جهة جلوسه على العرش:
أن ذلك محال لاستحالة امتداد الجسم في الأبعاد دون نهاية ، فيقول بعد نقاش طويل مبني على أصله الذي سبق وشرحناه من (قياس جسم غائب "الخالق" على مواصفات جسم مشاهد)
"ولو كان مراد أحمد الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلوما لعباده فإنهم قد عرفوا أنّ حدّه من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحدّ الذي لايعلمونه لايختص بجهة العرش"
فابن تيمية يرد على الفراء الذي يثبت الحد من جهة العرش لجلوس الله عليه بأن ذلك معلوم للناس جميعا! وأنه محدود من الجهة الأخرى وبالتالي علمنا أن الحد هذا لايختص بجهة التحت فقط بل من كل الجهات
(وقد نقل السلفيان مسلط العتيبي وعادل آل حمدان هذه النص بطوله الذي يثبت فيه ابن تيمية المحدودية من كل الجهات لامن تحت فقط في رسالتهما "الرد على منكري الحد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية" ص222)

ويقول ابن تيمية مدافعا أمامَ الرازي عن المجسمة في إثباتهم الحيز الذي يثبته كشيء ضروري لله بما أنه جسم
"يقال له:هؤلا إذا قالو أنه مختص بحيزوجودي أزلا وأبدا فليس ذلك عندهم شيئا خارجا عن مسمى الله، كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجا عنه بل هو منه ، وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته، لافرق بين تحيزه وقيامه بنفسه وسائر صفاته اللازمة والتحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات، كما أنه كذلك في سائر المتحيزات"
بيان التلبيس (3/653)
يرى ابن تيمية أن الحيز الذي هو حدود الجسم ونهاياته وجوانبه (أثبت لله) من الحياة وبقية الصفات، وهذا صحيح على أصله لأن الوجود عنده مساو للجسمية فمادام كل موجود جسم وكل جسم متحيزثم يفترقون بعد ذلك لأجسام حية وأجسام جامدة
فصحيح أن وصف الخالق الموجود بالتحيز أبلغ من الحياة كما قال ابن تيمية (لأننا نشاهد الحياة مختصة بالجسم المتحيز) .
وهذا الكلام رد على الرازي الذي ألزم المجسمة أنهم مادامو يعبدون الها متحيزا فليعبدو الحيز أولى من عبادة من فيه لأنه مقدم عليه وسابق له
فدافع ابن تيمية على أن تحيز الاله في عقيدته لايستلزم قدم الحيز ومسبوقيته
فيقول أيضا مؤكدا ومدافعا "من قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته وونهاياتها فهنا الحيز ليس شيئا خارجا عنه"
وقد فصل ذلك بوضوح فقال
"لافرق بين تحيّزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة، والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لوزمه للذات ، كما أنه كذلك في سائر المتحيزات.
فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزمه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك"
التلبيس2/140
تعالى الله عن قوله ذلك ولا أدري مالرب المتحيز المحدود المحتاج لآلات الذي ينسب له الجلال والتقديس!!
وكما قال الإمام الطحاوي في بيان عقيدة السنة "تعالى الله عن الحدود والغايات والأركان والادوات"
بل يؤكد ابن تيمية في التلبيس 2/118
أن الحيز لله هو بعض منه فيثبت التبعيض والحيز دفعة واحدة بما لايدع مجال للتأويل
"وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره أنها حيزه فيكون حيزه بعضا منه"

3-إثبات الحجم والكتلة "القدر والمقدار":
حين يطلق ابن تيمية القدر فلا يقصد ما يقصده المسلمون بمعنى (القدر) الذي هو صفة معنوية كقولنا "هذا العلم ذا قدر عظيم"
بل يقصد القدر الذي هو الحجم والكتلة "هذه الناقة عظيمة القدر" أي عظم الحجم
فالأول من معنوي أي من الصفات أما القدر الحجمي فهو كمية من باب الكم.
وهذا أكد عليه ابن تيمية بوضوح
"وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة ولاقدر هو الذي يراد بالكيفية و((الكمية))، كتقدير موجود ليس قائما بنفسه ولابغيره" التلبيس(2/378)
وللتوضيح فلايوجد موجود إلا قائم بنفسه أو بغيره لذا معنى كلامه (من يفرض وجود موجود لاصفة له ولا (حجم) فكأنه يفرض معدوما لاوجود له)
أما لماذا يعبر ابن تيمية بهذا اللفظ المحتمل فهي التقية التي عبر عنها تلميذه ابن القيم بقوله في اجتماع جيوشه
"ونقول استوى من لا مكان إلى مكان ولانقول انتقل وإن كان المعنى واحد".
فهي محسنات لفظية لأن عامة العقلاء سينفرون من اللفظ وقد يتقبلون آخر فحين تقول حجم الله أوانتقل الله ينفرون ، فيتقربون لهم بتغيير اللفظ إلى (قدرالله) و (استواء الله)
وهذه المغالطة التي لايجيزها الدين ويستحلها هؤلاء في العقائد ولازلت مستمرة مع اتباعهم إلى اليوم.
-فنجد فارس العجمي صاحب كتاب "صناعة التفكير العقدي" يجيب جوابا مطولا في في موقعه في الاسك لإثبات امتداد الرب وحجمه بحسب معتقده (عياذا بالله منه) دفاعا عن ابن تيمية وردا على ما سمه (وهما) وهو يقصد حجج الرازي في تنزيه الله ونفيه عن الحجمية المادية
ولم يذكر الحجم وانما استبدله بلفظ القدر والمقدار رغم أن الأولى أوضح وإن كان مخلصا للتوضيح لما سار من اللفظ الأوضح مقعّرا كلامه بألفاظ قد تخفى على غير المطلع!
(جواب فارس العجمي مدافا عن اثبات حجم معين للخالق)
فهو هنا يدافع (عن اثبات حجم معين لله وأنه ممتد في الأبعاد كالمجسامت)
مع تمطيط لغوي ونسخ ومحاكاة لعبض من يقرأ لهم في الاسلوب ليظهر العمق ويشتت غير المختص
ومختصر الكلام أن الرازي احتج على المجسمة بأنه لو كان لربهم حجم معين جاز أن يكون أكبر مما هو عليه أو اصغر وهذا دليل أن هناك من خلقه وخصصه ببعض الجائزات دون بعض.
فكان جواب المجسمة الذي يكرره العجمي هنا (لا مشكلة أن يكون له حجم معين وليس لازما أنه يجوز أن يكون أكبر او اصغر فربما حجمه مناسب(اعتباطا) وكمال)
ولايعنينا الرد على هذا المستوى من الاعتقاد حاليا فمجرد عرضه يكفي عن الرد عليه وإنما يعنينا توضيح أنه حقيقة معتقدهم..

يقول ابن تيمية
"بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به...فإن حيّزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته..."
-ويقول مجيبا على الرازي الذي قال للمجسمة (لو عبدتم ربا متحيزا لكان الحيز أول بالعبادة ممن تحيز فيه لاستغناء الاول وقدمه أو على اقل تقدير لكانو متساويان فليس واحد منهما اولى من الآخر)
-يرد ابن تيمية "لانسلم أنه ممتنع، والقدر والحيز الداخل في مسمى الممتحيز هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية، فإن كل متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو أياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله مايكون شيئا منفصلا عنه"
بيان التلبيس (3/797)
فيرى ابن تيمية أن الحيز ليس سوى نهايات أطراف الله وحدوده وليس شيئا غيره لذا ليس ممنوعا أن يكون قديما لأنه بعض من ذاته! -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-
-إثبات التركيب:
التركيب هو (كل ماسبق طرحه) فهو كون الشيء ممتدا في الأبعاد يمينه غير شماله وهذا يسمونه "قبول الشيء الإشارة الحسية بمعنى يمكنك أن تشير بأصبعك لجزء منه دون جزء"
ولاعلاقة له بكون الشيء كان منفصلا أو يقبل الانفصال فمثلا الجبل مركب وكذلك اللعب التركيبية مركبة..
والتركيب أمارة على كون الشيء مخلوقا للدليل العقلي وهو التخصيص فكون الشيء بهذا التركيب دون غيره من الاحتمالات المتساوية دليل على أن هناك من رجح احتمالا معينا دون غيره لأنه "لارجحان دون مرجح"
وكذلك للافتقار فالمركب محتاج لأجزاءه للبقاء والمحتاج في ذاته لايكون اله لأنه مفتقر وفاقد الشيء لايعطيه..
وقد توارد المسلمون قاطبة من السلف إلى الخلف عن تنزيه ذات الله عن الجسمية ولوازمها من تركيب وحد بل (هي من ضمن معنى الجسم) وليست لوازم خارجة عنها.
وعلى هذا أهل السنة والجماعة من أقدم عقائدهم ما قبل (الطحاوي المولود 239ه ) إلى أحدثها، 
وعليه السلف جميعا وحتى الفرق التي افترقت عن الجماعة شيعة واباضية وخوارج..الخ لم يخالفو في (تنزيه الله عن ذلك) لأنّه مادلّ عليه الشرع من كتاب وسنة.
ولكن افترق وتفرّد الشذوذ التجسيمي كالكرامية وتبعهم ابن تيمية واتباعه اليوم بهذه العقيدة ..
التي لم تساعدهم عليها النصوص والأصول فاضطروا لهدم اللغة ونقض الأصول العقلية لتسريبها كما وضحت في التدوينة الثالثة "الأصول المعرفية للتجسيم" والتدوينة السادسة "نقض اللغة" .
نعود الآن لابن تيمية والتركيب ويجب التنويه أن كل هذا (فضول) لاداعي له لأنه حين تقول الشمس طالعة فلاداعي لأن انتظرك أن تقول أن النهار موجود لأن هذا هو هذا وهذا لازم هذا.
فحين تثبت الجسمية لاداعي لإثبات التركيب والتحيز..الخ مما هو من متضمنات ومعاني الجسمية.
ولكن للتطويل فوائد فهو قد يقطع تلبيس بعض مستبيحي التدليس والكذب من السلفية الذين لينتصروا للحزب لا للحق من الممكن أن يجعلو ابن تيمية متناقضا يقول "الشمس طالعة" ولكن "النهار غير موجود".
لذا نطيل بنقل القليل من اتساقه في عقيدته
فيقول ابن تيمية مقرا مسلما للرازي أن جهة الرب اليمين غير اليسار مع جواز الإشارة حسا لأحدهما دون الآخر
"أم تعني أن اليمين متميزة عن اليسار، وهو التركيب في الاصطلاح الخاص كما تقدم بيانه؟
...وأما إن أراد بالتركيب الامتياز مثل امتياز اليمين عن شماله، قيل له:هذا التركيب لانسلم أنه يستلزم الأجزاء ، فإن هذا مبني على إثبات الجزء الذي لاينقسم..وغاية أن يقال: امتياز بعض عن بعض كما ورد عن طائفة من السلف التكلم بلفظ بعض"
التلبيس (4/83)
يقرر ابن تيمية ماقرره سابقا وبنفس المغالطات من كذب على السلف الذين يعتبر من أكثر من حشر اجماعاتهم رغم عدم ذكر أي مصدر بل بما يناقض ماتواتر عنهم.
ثم بعد ذلك بالمغالطة اللفظية "ذكر لفظ بعض" كأن الخلاف في لفظ بعض!
ثم بعد ذلك بمغالطة رجل القش فيهاجم الرازي بأنه لو قصد بالتركيب "أنه كان متفرقا ثم تركب" ويرد بحشو وتكثير رغم أن هذا ليس موضع النزاع ولاعلاقة له، ولكن من طرق ابن تيمية مثل ذلك حتى يخفف الشناعة التي يصرح بها أخيرا فيقول (إن كنت تقصد مركبا بحيث أنه ممتد في الأبعاد له جزء يمين وآخر يسار يشار لهما حسا فهذا الحق)
وتنتهي اللفة كالعادة بقبول الالزام واعتباره الحق بعد طول نفس في المغالطة والحشو وقد شرحنا على مدى هذه السلسلة أنواعا كثيرة منها يستخدمها ابن تيمية في طرحه .
-إثبات الثقل لله (الوزن) :-
يعبث ابن تيمية بكل العلوم من لغة وأصول فقه وأصول منطق بل حتى بعلم الحديث وقد أثبتنا عبثه في كل ماسبق وسنشاهد الآن وربما لاحقا بتدوينة مستقلة عبثه بعلم الحديث ليثبت عقيدته بالحديث الباطل ويرد الصحيح الذي ينقضها.
ورد من الموضوعات "أن الله جالس على العرش ويئط به" والأطيط هو صوت الرحل او المقعد بسبب وزن الجالس عليه.
وقد رد هذا الحديث العلماء من السند والمتن كليهما.
ولأن ابن تيمية يعتقد جسمية الله وجلوسه على العرش بل ناقش هل يزيد عن العرش مساحة اضافية أم لا.
فقد أخذ هذا الحديث الواهي وصححه ليثبت به عقيدته، فلم يصححه من ناحية علمية بل هو كما رأينا مرارا يعتقد مسبقا ثم يضرب بكل العلوم والأصول حتى توافق معتقده وهذا شبيه بوضع العربة أمام الحمار!
يقول في مجموع الفتاوى مدافعا عن الحديث وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبدالواحد المقدسي في مختاره، وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي وابن الجوزي وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه.
وفيه قال [إن عرشه أو كرسيّه وسع السماوات والأرض، وإنه يجلس عليه فمايفضل منه قدر أربعة أصابع، أو فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه]"
مجموع الفتاوى(16/435)
وهذا تلبيس صريح فلم يقبله أهل السنة بل ردوه سندا ومتنا واستقبحوه ولايتورع ابن تيمية عن هذا كما سبق وكرر مرارا ورأينا بأعيننا في مواضع كثيره عن هذه المغالطات .
فهو بنفسه ذكر من رده ثم لم يذكر من قبل به حتى لايعلم القارئ أنهم ليسو إلا افراد معدودين صرح السلف من أهل السنة بانحرافهم وتجسيمهم واكتفى ب"أهل السنة" تدليسا!
وهذه الروايات المكذوبة هي ما احتج بها ابن تيمية وأتباعه من بعده كابن القيم والمتمسلفة المعاصرين. ورغم أن كبار الأئمة باعتراف ابن تيمية هم من ردوها إلا أنه لم يتورع عن وصفهم بقلة الديانة والعقل
فقال عنهم "فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول، واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات، فإنما سلك سبيل من لاعقل له ولادين"!
وهذه العقيدة الصريحة ليست سرا بل متبعوا ابن تيمية لايتورعون عن عرضها اليوم
فيقول عادل آل حمدان في كتابه "الاحتجاج بالآثار السلفية على إثبات الصفات الإلهية"
تحت عنوان "إثبات الثقل لله"
"أثبت أهل السنة والأثر (الثقل لله تعالى) كما وردت بذلك الآثار السلفية الصحيحة عن الصحابة والتابعين، وتلقّاها أهل السنة عنهم بالقبول"
(1/58)
وقد رأينا من هم أهل السنة ورأينا كذب نسبة هذه الموضوعات للخلف فضل عن السلف والصحابة والتابعين ولولا الحياء لاستشهدوا بأن الكواكب والحجارة والشجر وافقوهم..
يتبع

عرض مزيد من التفاعلات

الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

ابن تيمية فيلسوف المادية..7 شرح نظرية المعرفة (وتوضيح تخبط التيميين فيها)

توضيح تقديمي:-

كتبت سلسلة تدوينات تأصيلية لمذهب ابن تيمية الفلسفي بعنوان (ابن تيمية فيلسوف المادية) وكانت من 6 تدوينات اعتمدت فيها إظهار أصول ابن تيمية الفلسفية بناء على تقرير (د.يوسف كرم) للمذهب الحسي المادي..
ودفعني إلى ذلك ماهو مشاهد في الساحة المعرفية من تخبط السلفية وأتباع ابن تيمية المعتقدين في ذاته الحق دون تمحيص لمنهجه ،فتجدهم يتفقون بقاسم مشترك وهو (الاعتقاد بمعتقد ابن تيمية مهما كان) ويرمزون لذلك باسم (السلفية) ، ومن مساوئ هذا الاتباع الأعمى أنهم تخبطوا في تقرير أصوله ، لامجرد اختلاف فروع فكرية كما نجده بين الفرق بل اختلاف في الأصول ، فتجد أحدهم يؤلف كتابا من 1000 صفحة يقرر فيه أن ابن تيمية متبع للمنهج العقلي الفلسفي كبقية المسلمين فيتهافت (السلفية) على هذا الكتاب ليكون الكتاب المقدس لمعتقدهم ، ثم بعد فترة أخرى يخرج من يقرر منهم أن ابن تيمية متعالي عن سخافات (المنهج العقلي) وأنه مقرر للمنهج الحسي المادي وسابق للملاحدة والغرب والتجريبيين لذلك فينقلبون جميعا مقررين هذا الأصل!
وهذا ليس خلافا علميا مقبولا بل هو انقلاب يوضح أنه لا عقيدة علمية مقررة لمتبعي هذا التيار وإنما مجرد حزبية وشيء أشبه بالعشائرية القبلية بنسخة عقدية..
ونتج عن هذا تخبط في فروع المعتقد بين من ينفي ومن يثبت مانفى حين يتأكد أن ابن تيمية قاله ، وتجد ومن يتأكد عنده القول ولكن لشناعته (كتحيز الله مثلا) يقوم بتأويل متكلف له ليخرجه عن مقصده ،وهكذا دواليك مما يصدق عليه قول الغزالي (مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول)..
ولتحرير ذلك كتبت التدوينات السابقة لإظهار اتساق ابن تيمية الكامل مع أصول مذهبه الحسي وإنقاذه كفيلسوف مادي من تخبط اتباعه الذين قد يدفعهم الخجل إلى جعله متناقضا يقرر المنهج العقلي (-الذي يثبت إمكان المجردات واستقلالية العقل كمصدر معرفي عن الحس ولوازمه كالخيال-) ، وفي نفس الوقت أفنى عمره في حجج من قبيل تقريراته الوجودية المادية (كل موجدين يجب أن يكونا متجاورين بحد لأنه لاوجود لموجود غير ممتد في الأبعاد) أو تقريراته المعرفية الحسية (مالا يمكن تخيله لايمكن تعقله والعقل والخيال نسبة واحدة فإثبات العقل لموجود غير محسوس ولامتخيل هو وهم)..
وهذا فصلته جيدا في التدوينات التي سأضع روابطها:-
ابن تيمية فيلسوف المادية..مقدمة (1) ‏
ابن تيمية فيلسوف المادية.. أصالة الحس والمذهب المادي (2)
ابن تيمية فيلسوف المادية ... الأصول المعرفية للتجسيم (3)
ابن تيمية فيلسوف المادية... إبطال المنطق /الجزء الأول (4)
ابن تيمية فيلسوف المادية.. إبطال المنطق/الجزء الثاني (5)
ابن تيمية فيلسوف المادية.. نقض ا"للغة/الأصول" والتلبيس على العامة (6)

وبعدها اتبعتها بسلسلة غير مكتلمة أقرر فيها الفروع من كلام ابن تيمية وأتباع معتقده متسقة مع أصوله التي قررها وأسميتها 
ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. المتن العقدي 1

وبعد عدة تدوينات من تلك السلسلة رأيت في التفاعلات من المغالطات المتعمدة عن قصد وغير المتعمدة عن جهل، مايستدعي الرجوع للسلسلة الأولى بإضافة مبحث جانبي فيها نبّه عليه يوسف كرم في تعريفه الذي اعتمدته وهو تخبّط الحسيين في العقل وماهيته وماهو التفكير؟ ودفنهم لهذا المصطلح تحت التلاعب اللفظي حتى أن العقل لم يعد شيء واحدا بل أصبح كل شيء يعجبهم وخلافه كل شيء لايعجبهم..
وسأوضح في هذه التدوينة بشكل أدق محلّ النزاع بين الحسيين والعقليين حتى لايستمر التلاعب اللفظي الذي يتقنه هؤلاء مرتعا خصبا للتشويش والعبث..

وخارطة التدوينة كالآتي:
1-خطوات التعقل (شرح لطريقة التفكير العقلي ومنهج نظرية المعرفة)
2-خصائص المنهج العقلي
3-تقرير المسلمين للمنهج العقلي
4-المنهج الحسي
5-الفرق بين المنهجين(محل النزاع)
6-ابن تيمية والحسية
7-توضيح بعض مغالطات أتباع المنهج التيمي


خطوات التعقّل:

كيف نعقل؟
تقوم نظرية المعرفة الاسلامية على منهج التجريد والانتزاع وهو ما اصطلح عليه فلسفيا بالمنهج العقلي في مقابل المنهج الحسي وهذا عرض سريع لها:

الخطوة الأولى:
1-يولد الإنسان صفحة بيضاء خالية النفس من أي معلومة وهو من حيث كونه إنسان (ممتازا عن بقية الحيوانات) يكون ذا فطرة مخصوصة وهي الاستعداد الفعلي لقابلية العلم (القوة العقلية)..
بعد ذلك يدرك الانسان عبر آلات الحواس معلومات حسية عبر الاحساس بما حوله بأي من الحواس الخمس الظاهرة أو الحواس الداخلية وبهذا تنفعل النفس بهذه المدركات فيتكوّن لديه علم حسي يعتبر أول درجات العلم وهو علم بسيط يشارك الإنسان فيه بقية الحيوانات..
وهذا العلم الحسي هو أساس العلم أي أنه ((شرط)) لمابعده من مراتب الإدراك ودونه لايدرك الإنسان شيئا ويجب التركيز جيدا على معنى الشرط فالشرط غير المشروط فالوضوء شرط للصلاة بمعنى لاتوجد الصلاة دون وضوء ولكن الصلاة شيء مغاير للوضوء ولاعلاقة بينهما سوى المشروطية.

الخطوة الثانية:
2-يترقى الانسان بعد الخطوة الأولى لخطوة أخرى هي في الحقيقة نتاج الحس بمعنى أنها مجرد محصلات الإدراكات الحسية لاغير وهي القدرة على اختزان الصور المحسوسة والمدركات الحسية والتصرف فيها بالتركيب والتشكيل كتركيب رأس خيل على جسد طائر..الخ وهي (الخيال) أو القدرة على إدراك بعض المعاني الجزئية البسيطة كالخوف من هذا والميل إلى هذا وهي الوهم.
و(الخيال) والوهم ليس شيئا غير الحس بل هو حصيلة الحس فهو بهذا الوجه إدراك حسي ولذا نجد هذا الإدراك مشترك بين الحيوان والإنسان ..

الخطوة الثالثة
3-المرحلة الثالثة وهي التي امتاز بها الإنسان عن بقية الحيوان هي (العقل أو التعقل) وفي هذه المرحلة يبدأ الانسان بمقتضى فطرته بالتجريد وإدراك المعاني وتتفعل قوته العاقلة فيبدأ بإدراك الضروريات ثم ترتيب المدركات الحسية وتجريدها ..
فمثلا فور ولادة الانسان يدرك حسا حالة واحدة (الحالة أ) "مثل صيحة بكاءه" ثم يدرك أخرى حين يسكت (الحالة ب) ثم يدرك عقلا أن الحالتين أ و ب متغايرتين فيدرك ضرورة عقلية هي (قانون الهوية) ويدرك أن الحالة أ وعدمها ب لايمكن أن يجتمعان معا ولايمكن أن يخلو منهما معا وهنا يدرك ضرورة عقلية أخرى وهي (قانون عدم التناقض) ..الخ 
وهكذا بفعل فطرة الانسان واستعداده بالقوة العقلية يكون مهيئا بضرورات عقلية فور دخول أول معلومة حسية لمدرَكه أو عقله تتفعل 
وتكون هذه الضروريات (قبليات) بها تنتج تجارب الانسان المعرفة فدونها لن تنتج أي تجربة مهما كررها الانسان معرفة أو قانونا كليا ..
ثم يبدأ الانسان بممارسة التفكير والتجريد فيدرك والديه وأخوته أو من حوله وهي مدركات حسية ببصره أو سمعه أو بغيرهما من الحواس ثم يبدأ عقله بالعمل فورا فيجرد هذه المحسوسات ليصل ل (المعنى) الكلي :-
أ-يبدأ بنفي العوارض المشخصة ليصل لمعنى ورائها فيحذف اللون والحجم واللبس والصوت والرائحة..الخ ليعقل معقولا أولا وهو (الانسان) الذي هو معنى أمه وأبوه وزيد وعمرو.. 
وهذا المعنى غير محسوس بل هو (ماهية) هؤلاء الأشخاص لذا حتى لو وجد الطفل رجلا من أقصى الكرة الأرضية  غريب الشكل سيعرف أن حقيقته (إنسان) وليس حقيبة ولافرسا.. وهكذا يستخرج الكليات والمعقولات الأولى التي لامحسوس موجود منها وإنما وجودها في العقل فقط مثل (الإنسان والحقيبة والفيل)..وهي أول درجات التعقل بعد الحس
ب- وبمخزون هذه الكليات تأتي درجة التعقل الثانية (الفلسفية والمنطقية) فيبدأ الانسان يرتب عقليا هذه الكليات المدركة فيجعل مثلا الانسان نوع وحقيقته الحيوانية جنس يشاركه فيها غيره وجسميته جنس أعلى ويجعل (الإنسان) كلي لأنه ينطبق على كثيرين بينما (زيد الذي أمامه جزئي) لأنه مشخّص أو متعيّن ولايمكن أن ينطبق على غيره..
ثم يبدأ بانشاء العلاقات بين الموجودات بعد إدراك حقائقها فيبدأ في وصف بعض الموجودات بالوحدة والكثرة أو بكون هذا علة ذلك فتنشأ عنده مفاهيم مثل العلية والسببية..الخ 
ج-يبدأ الانسان بالنّظر العقلي أو التفكير بمحاولة فهم أو ادراك الوجود عبر هذا المخزون المعرفي العقلي فيبدأ بالانتقال من المعلومات المختزنه عنده في عقله إلى مجهولات يريد أن يتعرف عليها فيستدل بالآثار على مصادرها وبالمعلول على علته ..الخ دون تقييد بالحس أو بالخيال ولذا يتعامل مع المجردات ويدرك المجردات وليس محصورا بالحس أو بالحواس بل قد يدرك وجود ما ليس محسوسا ولاماديا أساسا كالخالق عز وجل..
وهذا هو التفكير وهو (حركة النفس في المعقولات) وبهذا تنشأ جميع العلوم فيضع المناهج والمعارف وينظمها ويبدأ بالعمل العلمي كإنسان ويمتاز عن بقية الحيوانات بهذه الخصيصة. 
ومن الملاحظ أن التفكير (حركة النفس في المعقولات) مخالف تماما سواء في مبدأه أو في نتاجه للتخيل والخيال وهو (تركيب الصورة المحسوسة المختزنة والحركة فيها).

خصائص المنهج العقلي:
بعد هذا العرض المبسط للمنهج العقلي والذي سبق وأشرت إليه في هذه التدوينة (تدوينة ) نوضح بعض خصائصه:

-يقرر هذا المنهج أصالة العقل بمعنى استقلاله بفعل مستقل وإدراك مستقل غير راجع أو محدود بالحواس..
-المنهج العقلي لايستبعد الحواس كطريق للمعرفة بل يؤكد على أنها أحد أسباب المعرفة للإنسان..
يقول الإمام النسفي في أوّل متن العقائد النسفية (وأسباب العلم للخلق ثلاث هي : الحس والخبر الصادق والعقل)
-المنهج العقلي يجعل مبدأ العلم للإنسان هو الحس فهو المرتبة الأولى من مراتب الادراك التي يصعد بها الانسان للبقية
وقد قال العلماء (من فقد حسّا فقد علما) .
-هناك فرق بين الحواس وبين العقل رغم توقف العقل على الحسّ وهذا الفرق مثل الفرق بين الوضوء والصلاة رغم توقف الصلاة على الوضوء، فالحس شرط للعقل ولكن العقل بعد وجوده يستقل بنفسه فيدرك دون تقيد بالحس فيدرك المعاني مجردة من المحسوسات ويدرك المجردات بنفسها..
-هناك فرق بين الخيال الذي هو عبارة عن تصرف نفسي مقيّد بالحس وبين العقل ، فالعقل لاستقلاله عن الحس يدرك وجودا أعم من المادة ويدرك المعاني المجردة عن مشخصات الحس "كالإنسان" ويدرك وجود المجردات المتعينة التي لايمكن للخيال تصورها (كوجود موجود غير متحيز أو غير متمكن أو غير ممتد في الأبعاد)
فالعقلاني يلزم من منهجه المعرفي:
           1-لايحصر الوجود في المادة ولذلك هو مخالف للحسي المادي الحاصر للوجود في المادة.
           2-يسلّم باستقلالية العقل كوسيلة للمعرفة غير مقيدة بالحسّ فلاينكر ماتوصل له بحجة عدم إمكان تصوره خياليا أو عدم محسوسيته.
-المنهج العقلي هو المنهج المنتج للمعرفة فبقية مراتب الادراك الحسية لايمكنها إنتاج المعرفة بدلالة الحيوانات التي تشاركنا فيها وتعجز عن المعرفة مثلنا . وهذا عائد إلى أن المعرفة نتاج مدركات عقلية غير محسوسة (كالمعاني والضرورة والكلية) ، فلو انحصر إدراكنا في الحس لم نكن لننتج القوانين الكلية ل، أنه لاوجود في الخارج لكلي فحتى قاعدة (كل ماء يتبخر) يستحيل إدراكها لأنه مهما جربنا ماء وتبخر فلن نصل ل "كل الماء" ، لذا بإدراك حقيقة الماء عبر التجريد العقلي استطعنا النفوذ لخصائصه والحكم على الماهية وتعميم القوانين وهكذا بقية المعارف.
 ~فحصر المعرفة في الحس يبطل المنهج التجريبي نفسه المتوقف إنتاجه على العقل وقوانينه قبل الحس والتجربة .

بقيت ملاحظة جانبية:
هناك منهج قد يسمى مجازا ب(العقلي) ويصنف فلسفيا بالتصوري وهذا المنهج لاينكر العقل ولكنه ينكر اتصاله بالواقع المحسوس فيرى أن العقل عبارة عن قوة متصلة بقوة أخرى وتفيض عليها المعلومات بلا اتصال بالخارج عن طريق الحواس أو انتزاع وهذا المنهج الافلاطوني ليس عقليا بمعنى العقل مرتبة إدراكية بل هو يقطع علاقة العقل بمعرفة الواقع ، لأنه غير متصل به فلادليل على أنه عاكس له وبالتالي يسد باب الاستدلال العقلي ودلالة العقل على الوجود وغيرها ، وهو يبدأ مع افلاطون وينتهي مرورا ببعض الفلسفات الشبه منقرضة كفلسفة مالبرانش وكانط واسبينوزا.. وهو أقرب للمذهب الحسي لاشتراكه معه في إنكار التجريد الذي شرحته في المنهج العقلي وبالتالي حصر طرق معرفة الواقع في الحس فقط أما العقل فشيء موجود ولكنه معزول عن الواقع بنحو أو آخر..

تقرير المسلمين لمنهج أصالة العقل:

أولا: كيف نحدد منهج الفكر أو الشخص المعرفي؟!

لمعرفة المنهج المعرفي لجماعة فكرية أو لشخص هناك أحد طريقين :-

1-فحص منهجه الوجودي بمعنى رؤيته للوجود وهي نظير (العقيدة) عندنا وهذا من باب الاستدلال بالأثر على المؤثر
فكمثال نفحصه فنجده إما:-
-يثبت موجودا على خلاف المحسوس أو موجودا مجردا غير مادي أو على الأقل لايمانع من وجوده ، فهنا نعرف أنه ليس حسي لأن بطبيعة الحال اعتباره (الوجود أعم مما يصح إدراكه بالحس وأعم من المادة وهو مايتجاوز الحس والخيال) دلالة على إثباته طورا إدراكي أعلى من الحس والخيال وهو العقل.
-ينفي إمكان وجود أو تحقق معقول غير محسوس أو غير ممتد في الأبعاد أو لايمكن للخيال أن يتصوره (ليس من جنس المحسوسات) فهذا يدل على أنه حسي يحصر الإدراك في الحس أو مايرجع عليه فسقفه الأعلى للحكم هو الخيال فما لا يمكن تخيله لايمكن وجوده وكل معقول لايقابله محسوس فهو وهم أو عدم.

2-الطريقة الثانية هي أن يكون الشخص نفسه قرر نظريته في المعرفة فقرر أصالة الحس أو أصالة العقل وهنا هذا التقرير يغني عن الأول لأنهما متلازمين ..

فيكفي لمعرفة المنهج الاسلامي والذي عرضته في هذه التدوينة (تدوينة ) بنقولات من أئمة السنة يكفي في معرفة منهجهم معرفة عقيدتهم التي تقرر (تنزيه الله سبحانه) عن عوالق المادة والزمن والمكان والتغير والحدوث وتثبته موجودا متحقق متجردا وهي عقيدة المسلمين جميعا (سواء أهل السنة والجماعة أو الفرق كالشيعة والمتعزلة والزيدية والاباضية) إلا بعض من شذ وهم ندرة كالكرامية والحشوية والذين تبعهم ابن تيمية .
فكونهم يثبتون التنزيه وعدم حصرهم الوجود في المادية دلالة على إثباتهم قوة ادراكية مستقلة عن الوهم والخيال والحس وهي العقل .
ولكننا سنرى أنهم لم يكتفو بذلك بل فصّلو تفصيلا المنهج المعرفي العقلي الذي سبق شرحه:

تنطلق نظرية المعرفة الاسلامية من الوحي فتطابق مدلوله كما يطابقها:
والعمدة فيها قوله تعالى:
"والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"

يقول الرازي في تفسيرها:

المسألة الثالثة : الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء 

ثم قال : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) المعنى : أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله ، فالله أعطاه هذه الحواس ؛ ليستفيد بها المعارف والعلوم ، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير ، فنقول : التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية ، وإما أن تكون بديهية ، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات ، فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية ، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول : هذه العلوم البديهية إما أن يقال : إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة . والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء . 

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة ، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى ، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وكل ذلك محال ، وهذا سؤال قوي مشكل . 

وجوابه أن نقول : الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ، ثم إنها حدثت وحصلت . 

أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية . 

قلنا : هذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر ، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر ، فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر ، وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع ، وكذا الطول في سائر الحواس فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل . ثم إن تلك الماهيات على قسمين : 

أحد القسمين : ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو ؟ وأن نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية . 

والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية ، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو ؟ وأن المحدث ما هو ؟ فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث ، بل لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة . والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية . وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها . وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها ، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس ؛ فلهذا السبب قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة ، مدرجة في هذه الآيات . " 

التفسير الكبير /سورة النحل آية
\
وهذا النص الواضح كاف بنفسه في اختصار كل ماشرحناه فقد قرر المنهج العقلي الذي شرحنا خطواته تفصيلا بما لامزيد عليه
 فالنفس خالية ثم تستعين بالحس الذي يكن شرطا أو سببا للتعقّل عبر التجريد الذي شرحناه ، ونجده يطابق كل خطوات نظرية المعرفة العقلية التي بسّطناها بخطوات مفصلة..

وعلى ضوء هذا المنهج العقلي والشرعي ، قرر العلماء أصول المعرفة ومنهجها واتسقت العقيدة والعقل .
يقول الإمام القطب التحتاني مفصلا منهج المعرفة:
"النفس في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم كلها لكنها مستعدة لها و الا لامتنع اتصافها بها...ثم إذا استعملت آلاتها اعني الحواس الظاهرة والباطنة حصل لها علوم أولية واستعدت لاكتساب النظريات وحينئذ تسمى ( عقلا بالملكة لأنها حصل لها بسبب تلك الاوليات ملكة الانتقال إلى النظريات.
ثم إذا رتبت العلوم الأوليّة وأدركت النظريات مشاهدة إياها سميت ب(العقل المستفاد) .. واذا صارت مخزونة عندها -المعلومات- وحصلت لها ملكة الإستحضار متى شاءت من غير تجشّم كسب جديد فهي (العقل بالفعل) "
شرح المطالع / 20
فنجد وضوح المنهج كما هو معروض في كتب المعرفة الحديثة
1-النفس خالية ولكنها فطريا مستعدة للمعرفة بقوة العقل الانساني 2-تستعمل الحواس لحصول المدركات الحسية وهي أول مدركاتها 3-تكون هذه المدركات((سببا/شرطا)) لتفعيل العقل فيبدأ فورا بالتجريد وتتفعل عنده الضروريات ويستخرج الكليات والأوليات 

ومعنى النظريات : العقليات سواء المعقولات الأولى (الإنسان الفرس الطاولة) أو الثانية (الجنس النوع الفصل/العلة المعلول السببية) والتي سبق شرحناها .
وعلق العلامة السيد الشريف في حاشية الصفحة موضحا معنى علوم أولية فقال:
"أي ضرورية فإن الضروريات أوائل العلوم والنظريات قوانينها وكيفية حصولها أنها اذا استعملت تلك الآلات وأدركت الجزئيات وتنبّهت لما بينها من المشاركات والمباينات استعدت..."
فنلاحظ بوضوح في شرح السيد أن الحواس هي المنبه لعمل العقل في أول الخلقة وهو معنى كونها شرطا فالعقل ليس محصول المحسوسات كالخيال وإنما شيء آخر مستقل تنبهه آلة الحس فيستيقظ ويبدأ العمل.
ويجب التنبه لهذه الجزئية بالتحديد وهي كون الحواس شرط لتنبيه العقل فهي جزئية رغم بداهتها إلا أننا نجد المتمسلفة كعادتهم في إفساد العلوم بالعبث والتحريف يغالطون العامة بالخلط بين المذهبين العظيمين المتغايرين والذين تنضوي تحتهم الفلسفات الانسانيية (أصالة الحس) و (أصالة العقل) وذلك عبر تلبيسهم بجعل (كون الحواس شرط) هو نفسه مقصد الحسيين (بأن الحوس هي هي العقل والعقل ليس إلا مجموع المحسوسات)
وهذه لم تخطر حتى ببال أعظم الملاحدة الماديين الحسيين!
ولكنه عبث العقلية اللاعلمية والتي تسعى لإنقاذ الحزب لا لتقرير مذهبها وتأسيسه فتحاول خلط الكل بالكل لتخفيف شناعة انفرادها بما لايستساغ علميا حسب العصر الحاضر.

يفصّل الجرجاني موضحا شرطية الحواس للتعقل:
(المرتبة الثانية العقل بالملكة وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات منها وأنه أي العلم بالضروريات حادث بعد ابتداء الفطرة فله شرط حادث بالضرورة دفعا للترجيح بلا مرجح ..وماهو أي ذلك الشرط الحادث إلا الإحساس بالجزئيات والتنبه لما بينها من المشاركات والمباينات فإن النفس إذا أحست بجزئيات كثيرة وارتسمت صورها في آلاتها الجسمانية ولاحظت نسبة بعضها إلى بعض استعدت لأن يفيض عليها من المبدأ (العقل أو الروح) صورا كلية وأحكام تصديقية فيما بينها ، فهذه علوم ضرورية" شرح المواقف 2/83
وهنا يتضح بوضوح جميع ماذكرناه في أول التدوينة من تفصيل المنهج العقلي وخطوات التجريد حتى لحظة بدء التعقل واستمرار التفكير ..

أما توضيح كيفية تجريد العقل للمدركات الحسية الأولى واستنباط الكليات الغير محسوسة والتي هي أساس التعقل أو مادته الخام فيفسرها بوضوح الإمام القطب التحتاني بقوله:

"فإن قلت: إذا لم يكن في الوجود (الخارج) إلا الأشخاص (زيد بكر أيمن) فمن أين تحققت الكليات (الإنسان) ؟

قلت: 
1-يحصل في العقل أولا صورة شخصية مطابقة لهوية الشخص لاينطبق على هوية أخرى (صورة زيد الذي تراه أمامك)
2-تحصل منها صورة أخرى منطبقة على هوية الشخص وعلى أبناء نوعه (صورة الإنسان المنتزعة عقليا من حقيقة زيد)
3-ثم أخرى تنطبق عليه وعلى أبناء جنسه (مفهوم الحيوانية ويقصد هنا أننا نبدأ نحلل حقيقة الانسان لنصل لمفهومه)
"
وقد فصل أكثر في ذلك وفصل بين مفهوم الكليات العقلي وبين مايعتبره الحسيّون كليات كما سنرى وذلك في رسالته تحقيق الكليات والتي نقل منها هذا الكلام السيد الشريف في حاشيته على شرح المطالع ص243 من منشورات ذوي القربى.

وهذه النقول تكفي في توضيح المنهج الاسلامي المعرفي (أصالة العقل) ونرى فيها ضابطا كليا منهجيا للمعرفة يميزه عن غريمه المنهج المادي الحسي ..
وهذا الضابط هو :
(للإنسان قوة إدراكيّة متميزة عن الحواس تدعى (بالعقل) شأنها أن تدرك معاني المحسوسات وتجرّدها وتدرك معاني أخرى غير محسوسة أصلا وإنما مجردة بذاتها ثم تؤلف تلك المعاني في صورة أقيسة منطقية تستطيع عبرها أن تنفذ لما وراء المحسوس وتدرك حقائق غير محسوسة ، وعلاقات كلية ليس للحس دخل فيها كالضرورة والعلية والسببية. 
فالعقل مستقل بفعله وموضوعه عن الحس ومدركاته وإن كان مبدأه الحس)

المنهج الحسي:
وضحت بتبسيط المنهج الحسي في هذه التدوينة (تدوينة ) وهو إجمالا يتلخص في:


‏"فريق مهم من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا الوحيدة للمعرفة ، وأن مايسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها -ترجع للحواس بمعنى أنه مجرد الخيال-
‏هؤلاء الفلاسفة يدعون بالحسيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة
‏ويدعون بالماديين متى دار الكلام على الوجود وذلك لقولهم : لا وجود لغير المادة ، ولامعرفة دون الحس
‏ويدعون بالإسميين أو اللفظيين لقولهم : مالمعاني إلا أصوات في الهواء , أي أسماء و ألفاظ فحسب
‏وهم أميل إلى تسمية العقل بأسماء ذات دلالات واسعة وغامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها"
‏يوسف كرم/العقل والجود/ص6

فالفرق بين الحسيين والعقلانيين أن الحسيين يتفقون معنا في أن الحس مصدر من مصادر المعرفة.
أي يتفقون معنا في (الخطوة الأولى) التي ذكرتها في عملية التعقل،
ولكنهم يختلفون في الباقي فهم يحصرون المعرفة في الحس فقط أو ماهو راجع للحس
فالعقل عندهم لا يتجاوز تركيب وتجزئة الصور المحسوسة (الخيال) وأحيانا عند فئة قليلة منهم يجيزون تجريد الخطوة الأولى بمفاهيم المعقولات الأولى مثل (الانسان)..
أما كون العقل مدركا مستقلا عن الحواس مشترطا به فقط ، ويستقل بإدراك العلاقات الكلية والضرورية والمفاهيم ويمكنه أن ينتج معرفة مستقلة بالوجود عن طريق القياس المنطقي وغيره فهذا كله محال في المذهب الحسي ..
فالعقل عندهم كما يقول الفلاسفة الغرب التجريبيون مجرد قياس محسوس على محسوس والانتقال منه..

-لذا على مذهبهم يتم تفسير الكليات بأنها مجرد صور حسية بخصائص مشتركة بين الكل (ملامح غامضة تنطبق على الكل) وهذا التفسير لايستقيم مع يقيننا با لإنطباق التام للكلي على جزئياته (فنحن نرى أن كلي مثل الإنسان ينطبق 100% على زيد وعمر وبكر فلو كان الإنسان ليس معنى عقلي كما يدعي الحسيون وإنما مجرد صورة متخيلة من المشاهدة الحسية لكانت انطبقت بنسب متفاوتة بين الطويل والقصير والبدين والاسود والقمحي لتباعد ملامحهم المحسوسة)
فيتم إنكار الكليات عندهم بأكملها وبالتالي إنكار مايبنى عليها من العلوم كالمنطق وإنكار مايمكن أن تنتجه بالعمليات العقلية كالاستدلال على موجود لايمكن تخيله مجرد وغير محسوس أو غير مادي.
-وعلى مذهبم لايمكن تفسير التجربة وإقامة منهج تجريبي لإنكارهم للقبليات والضروريات العقلية فلا علية ولاسببية ويحاولون تفسير هذه المعاني بأنها مجرد (توقع) وليس حقيقة واقعية توصل لها العقل،  فيرون أن ضرورة إيماننا بوجود المعلول بعد العلة مجرد توقع نتج عن تكرار المشاهدة ، وهذا باطل بدلالة أننا نفرق بين يقيننا بحدوث الشيء بعد سببه وبين توقعنا حدوث شيء بعد شيء لاتربط بينهما علاقة سببية.
ولتوضيح أزمة المنهج الحسي: 
حين نحاول استنتاج قاعدة علمية (كل الماء يتبخر بالحرارة)
فسنعمد لتجربة كوب ماء وكوبين ومئة كوب
فعلى المنهج الحسي الحس لا يدلنا سوى على جزئيات (تبخر الكوب أ والكوب ب ...الخ)
وبالتالي يستحيل أن نستخرج كلية مثل (كل الماء يتبخر بالحرارة) لأننا لم نجرب حسيا كل الماء.
فيتناقض المنهج الحسي المنكر للعقل كوسيلة مستقلة لمعرفة متمايزة ، ويتراجع معترفا ضمنيا بقوة أخرى غير الحس (العقل) تنتج قواعد عقلية لاحسية مثل (الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم)
فيحكم عقليا بالقاعدة الكلية عبر قياس منطقي لاحسي وإن لم يعترف بذلك.

ونوجز تهافت منهجهم بعبارة يوسف كرم
‏" نجمل تهافت مذهبهم بقولنا : أنه من جهة يزعم أنه مناصر للتجربة ومتابعة الواقع المحسوس ومن جهة أخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضروريتها فيدع العلم بلا إسناد "

الفرق بين المنهج العقلي والمنهج الحسي (محلّ النزاع):
لا خلاف بين المنهجين في أن الانسان يولد خالي الذهن عن كل معرفة ، ولاخلاف في أن الحس هو أساس التعقل والعلم ، ومرحلته الأولى ومصدره الأساسي فالفلاسفة والعلماء يرددون جميعا (أن من فقد حسا فقد فقد علما) ولو فرضنا إنسانا وٌلد بلا أي حس لا داخلي ولا خارجي فبالتأكيد لن يتمكن من المعرفة ولا إدراك أي شيء.
ولكن الخلاف في أن المنهج الحسي قصر العقل على مجرد تركيب الصور (الخيال) أو ملاحظة الخصائص والمشتركات الحسية. 
وأنكر الخطوات الأخرى من المعرفة التي تثبت للعقل مجالا آخر غير راجع للحس باستنباط العلاقات وترتيب المعلومات والاستدلال منطقيا للتعرف على المعلومات ،وعلى الموجودات..

يقول الفيلسوف الشيعي جعفر السبحاني 
"الحس على ضوء ما أثبتته التجارب هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها صرح التصورات البشرية ، ولكن ذلك لايعني تجريد الذهن عن ابتكار تصورات وتصديقات جديدة على ضوء التصورات المستورة من الحسّ.
كيف وقد سبق توضيح بأن هناك مفاهيم تصورية باسم المعقولات الثانوية تنالها النفس وتقف عليها من دون أن يكون لها أثر في الحس أو الخارج ، كما أن هناك تصديقات تنالها النفس من دون أن تعتمد في نيلها على الإدركات الحسية ، كالحكم بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما أو امتناع الدور والتسلل. فمحاولة الحسيين إرجاع كل المعارف التصورية والتصديقية إلى الحس فاشلة.
فالفرق بين منهجنا ومنهج الحسيين هو أنهم يحصرون أداة المعرفة به ، بينما نحن نجعل المعرفة الحسية ممهدة لتسنّم العقل منصة إدراك أمور ليس لها في الخارج من أثر ، في مجالي التصور والتصديق على ما عرفت.
وكم من فرق بين حصر المعرفة بالحسيّة فقط وحصر أدواتها بالحس فحسب وبين جلع الحس ومعارفه ممهدة لحصول معارف أرقى وأعلى، كما عليه فلاسفة الإسلام ."
نظرية المعرفة للسبحاني ص140

-فالفرق إذا ليس في كون المصدر الابتدائي للمعرفة هو الحس، بل في حصر المعرفة بالحس ومايرجع له كحد أعلى بالخيال، وهو مايجعل الحسيّون ينكرون الاستدلال العقلي وينكرون كل مايدل عليه كدلالته على الخالق لأنه غير مادي والحس لايدل على غير الماديات.
وينكرون الضرورات العقلية ويكتفون بنسبية الحواس والتوقع والتي قد توصلهم لأن يصبح كل محال عقلي (كالتسلسل والدور) ممكن وجائز وكل ماليس محسوسا هو المحال.

ابن تيمية والحسية:
اتضح أن منهج المسلمين المعرفي هو المنهج العقلي ، ولكن هناك من انحاز إما بتأسيس فلسفي أو فقط بانقياد عقدي للمادية والحسية وهؤلاء عرفو في الاسلام باسم المجسمة.
وممن انحاز منهم فلسفيا للتجسيم هو ابن تيمية الذي أسس مذهبا حسيا كاملا دفعه لذلك اعتقاده بجسمية الخالق.
وقد أثبتنا ذلك ووضحناه بجلاء وقتلنا غموضه نقلا من كلامه وتوضيحا لمذهبه وبالطريقين التي شرحناهم لمعرفة منهج الشخص أو الفكر المعين..
أعني بطريقة شرحنا الأصول فوضحنا تفسير ابن تيمية للعقل بإرجاعه للحس بقوله "العقل والخيال نسبة واحدة" أو تفسيره عمل العقل بأنها مجرد "قياس ماغاب على ماشاهد" وهو مالخصه د.يوسف كرم عن قول حسيي فلاسفة الغرب (القياس عندهم مجرد انتقال من محسوس مشاهد لمحسوس غائب) وغيرها من تفصيله الواضح للمعرفة..
كما وضحنا منهجه بالطريق الثاني أي رؤيته للوجود حيث رأيناه يحصر الوجود في المادة وينكر كل وجود مجرد سواء كان معقولا كالكليات والمعارف والقواعد العقلية أو كان موجودات كالخالق الذي ليس جسما..
وكعادة أتباعه الذين يربطون الحق بشخصه وينقلبون معهم كل ما انقلب مايظهر لهم منه .
أصبح الفريق الجديد منهم بعد أن كان ينكر حسية ابن تيمية وانطلاق عقيدته من منطلقات المادية التي تؤسس للإلحاد وهدم العقل ويؤلفون في ذلك المؤلفات الضخام بتقريرعقليته ولاماديته أصبحوا اليوم بعد ظهور منهجه يفتخرون بحسيته وماديته. ويدافعون عنها ولكن وأقول أيضا كعادتهم لايدافعون بدفاع علمي كتقرير معتقده واضحا وأصوله والدفاع عنها ومحاولة اثبات واقعيتها!
بل بصبيانية حزبية عبر التشغيب والمغالطة فلم تعد الدعوى أن ابن تيمية عقلي مثلكم كما كانت سابقا بمؤلفاتهم ومحاضراتهم
بل أصبحت الدعوى لا وجود إلا لمنهج حسي وعقلي فالجميع حسيّون!!
وهي متلازمة لهم يحاولون بها تخفيف شناعة شذوذ متبوعهم بإلصاقه بالكل حتى يتخلصو من عبء الاستدلال والاثبات..

مغالطات التيميين :

1- مغالطة رجل القش (الرد على غير محل النزاع)
وهي من أكثر مغالطاتهم استخداما وتقوم على غرابة ظاهرية تنبئ إما عن قوم يجهلون المباحث الفكرية فوقعوا فيها أو قوم يجيزون المغالطة والتدليس كوسيلة لتثبيت معتقدهم ومنحه الأحقية..

تقوم هذه المغالطة بدعوى أن الكل حسي بدليل أن المنهج العقلي يقول بأن مبدأ التعقل الحسّ،
فمن الردود التي وصلتني صفحات مسودة بعشرات النقول مثل النقول التي نقلتها عن السيد الشريف أو عن القطب التحتاني مع تحديد كلمة (حس) وهذا يعتبره هؤلاء ردا وإفحاما ودليلا على أنه ليس هناك منهج عقلي ومنهج حسي..!!

فالقوم لبلادتهم يظنون أن قولنا (الأصالة للعقل) يعني أننا ننكر الحس كمصدر ومبدأ للمعرفة! 
ويظنون أن معنى كون المعارف مبتدأها الحس هو نفس معنى كون المعارف محصورة في الحس!
فيجعلون معنى كون الحس شرطا = لاوجود إلا للحس..
وقد شرحت ذلك ووضحته ووضحت الفرق بينهما وهو فرق ظاهر لأدنى مطّلع حتى على كتب أدبيات الفلسفة للمبتدئين ولكن القوم يوجهون ردودهم لا للإثبات أمامَ الآخرين وإنما ترضية للأتباع والذين يراهنون على جهلهم بهذه الأمور فيخلطون لهم الحابل بالنابل..
فمحل الخلاف ومحل النزاع لم يكن أبدا كون العقل منبني على الحس أو كون الحس مبدأ البدهيات بل الخلاف كما وضحته نقلا عن السبحاني هو في كون المعرفة والبدهيات والضروريات والعقليات محصورة فقط بالحس وراجعة إليه..
وهذه المغالطة تشبه أتهامنا بإنكار وجود الماديات كالعربة والمنزل والصخرة لأننا ننفي المنهج المادي!

والصورة الأخرى هي خلطهم المتعمد بين (المنهج التصوري) الذي ينفي اتصال العقل بالواقع عن طريق الحس ويعزله (وضحته في بداية التدوينة تحت عنوان:تنبيه جانبي)
وبين المنهج العقلي القائم على صلة العقل بالواقع عن طريق الحس كمعرفة أولية وكمبدأ وشرط للتعقل..
يقول الفيلسوف المسيحي يوسف كرم موضحا الفرق بين المنهج العقلي وبين المنهج التصوري:
(بعد هذا العرض لأشهر النظريات التصورية في أصل المعاني وفي الصلة بين العقل والحس، نعرض النظرية التي نرى فيها الحق ، فنعلن على الفور أنها نظرية التجريد الارسططاليسية التي طالما أشرنا إليها.
وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملا المعاني، أو على استعداد لقبولها من روح علوي. وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالاَ مباشرا،وأن العقل لايكتسب معرفة ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس، بحيث تكون الحياة العقلية مرتبطة بالحجياة الحسية بل البدنية، مع تمايزها منهما بالطبيعة والفعل...ولهذا الأصل العالم أثر حاسم في اكتساب المعرفة، حسية وعقلية، فإن هذا الاكتساب رهين بفعل أعضاء الحواس فمن المعلوم أن، من عُدم حاسة ما من أول الأمر عدم معارفها)
يوسف كرم ص72 

وهذا يوضح سطحية مغالطة التيمية القائمة على سذاجة ظاهرية بجعل النزاع هو في كون الحواس مبدأ معرفة أو لا ، ليغطّوا على النزاع الأساسي بين أصالة العقل وأصالة الحس والذي هو (هل العقل قوة إدراكية مستقلة بفعلها وموضوعها عن الحواس أم أن نتاجها منحصر في الحس)..
وبالتالي لاتجد التيمية هؤلاء يتطرقون لمحل النزاع. 
ككون ابن تيمية خالف المسلمين ومنهجهم بجعله الخيال والوهم دليلا وقياس المحسوس بالمحسوس (فما لايمكن تخيله لايكون إلا معدوما) وبكونه بالتالي حصر على عكس المسلمين الموجودات في المادة (فلاوجود إلا للمتحيز) واتهمهم بالوهم لأنهم اتبعو أحكام العقل الذي لاوجود له.
واتهمهم بالتعطيل وعبادة العدم لأنهم أثبتو وجود الله منزها عن المادة وهو يحصر الوجود في المادة.
فكل ذلك وهو محل النزاع يقفزون عليه لينازعوا في غيره بناء على التلاعب اللفظي أو حتى اختراع مسميات ومناهج فلسفية لاوجود لها وبدء تصنيف الناس عليها فتجد الحسي والعقلي والتصوري ببركة هؤلاء التيمية شيء واحد تحت مسمى جديد، كعادتهم في العبث بالعلوم وضرب العلوم التي يقدر الله دخولهم إليها..

وهذا ليس مقصورا على مغموريهم بل حتى المتصدرون منهم مثل ماهر أمير صاحب كتاب "الانتصار للتدمرية"
ينشر تحت عنوان عجيب "ابن تيمية وأصالة الحس في انتزاع الكليات" ردا أعجب! وهذا هو الرد (رابط )

أما غرابة العنوان فهي لأنه لم يقل عاقل في الأولين والآخرين بأن الحس ينتزع الكليات بل حتى من حصر المعرفة بالحس نفى الكليات ، والحس لايدرك كليات (فأنت لاترى (الإنسان) وهو ماش وإنما ترى زيد أما الأنسان الكلي فوجوده في ذهنك)..!
أما قوله الأصالة للحس والأصالة كما هو معروف الاستقلال بالأثر والفعل وهي عَلَم على المنهج الحسي فهو ينافي مفهوم الكليات..
فهذا كبيرهم حتى عنوانه فارغ لامعنى له بل فقط فخم عاطفيا لأتباعه الذين مادروا عن هذه المباحث وإنما يهمهم كونه منتصر لابن تيمية فقط مهما قال.
أما الرد فهو نقل من كتابه ملخصه :
(أنه يرد على من رد على ابن تيمية الاستدلال الحسي (والذي شرحته في تدوينات ابن اتيمية فيلسوف المادية) ورد عقيدته المعتمدة على إثبات المحسوسات المشاهدة من أعضاء وأحجام وتحيزات وانفعالات للخالق الغائب بناء على (الانتقال من المحسوس المشاهد للمحسوس الغائب)..
فيكرر له مغالطة رجل القش السابقة: كلنا حسيون حتى أنتم بدليل أنكم قررتم أن مبدأ العقل والعلم والكليات هو الحواس )
فهذا المعتبر أنه مرجع التيمية الفلسفي وفارسهم بدل أن يقرر عقيدة ابن تيمية الحسية ويدافع عنها أو يقرر أصولها ويثبتها أراد اختصار الطريق بالمغالطة فقال:
(حتى أنتم عندكم مبدأ البدهيات هو المحسوسات)
وبهذه الجملة السحرية وجدنا عند ماهر أمير أن قول ابن تيمية والذي هو قول المنهج المادي الحسي
 (لاوجود إلا للمحسوس وكل وسائل المعرفة راجعة للحس والعقل لايثبت شيء باستقلال لأنه محدود بالحس الخيال)
مساوي لقول المنهج العقلي 
(الحس مبدأ التعقل ثم بعدها يستقل العقل عن الحس بالفعل والأثر وابتكار المعارف والاستدلال على موجودات دون رجوع إليه)

وباختصار مافعله ماهر أمير أنه جعل قول الماديين هو نفسه قول العقلانيين على امتداد التاريخ من ارسطوا نزولا ، وطلعت البشرية كلها كانت غافلة وغير مختلفة في المناهج المعرفية وظهر أن الملحد المادي الذي ينكر وجود الله لأنه غير محسوس وغير مادي لايختلف عن العقلاني المثبت للعقل ولوجود الله استدلالا عليه.. لماذا؟ دليل العلامة أن الكل قائل بضرورة الحس فإذا الكل واحد فلاوجود لمعرفة عقلية ومعرفة حسية.
ثم دفن كل ذلك تحت صفحات من النقول توضح قول علماءنا أن أصل العلوم الحس!
ولا أدري كم صفحة استمرت النقول التي كما رأينا لاعلاقة لها بمحل النزاع والخلاف بين ابن تيمية وخصومه.
ولكنها عادتهم الحشو دون فهم أو دون اهتمام ودون ملاحظة الدلالة والدليل و جهة الدلالة ومحل النزاع..
 فمبدأهم احشو اكثر واكتب اكثر وارفع صوتك أكثر فستظهر وجيه الرد مهما كان المضمون..
وهذا ليس مستغربا على اللامنهجية السلفية الذي يتبعها هذا العلامة ماهر ، وهي تسمي أي كلام أو نقل او اجتزاء دليلا حتى لو كان لاعلاقة له بمحل النزاع ، ودون تكليف أنفسهم عناء اثبات أن الاجتزاء والنقل يدل على محلّ دعواهم أم لا، فيكفي النقل ليكون دليلا حتى لو كان يدعي أن الله جالس في السماء ونقل لك "تبّت يدا أبي لهب" فعليك اعتبار كلامه كلام الوحي وعدم رده بحجة عدم دلالة دليل الوحي المنقول على دعواه!

وهذا مثال فقط عن سطحية هؤلاء القوم في التعاطي مع الأمور بتمشية الحال والترقيع حتى يستر الله علينا..
ويُرجع لوسط التدوينة في توضيح محل النزاع بين أصالة الحس وأصالة العقل تحت عنوان (الفرق بين المنهج الحسي والمنهج العقلي)


2-الخلط بين مستويات النزاع وجعل ذلك بوابة لخلط المناهج:
هناك نوعين من أنواع النزاع.
1-نزاع أصلي و 2-نزاع فرعي

وللتوضيح:
حين نجد شخصين (أ ، ب) يتنازعان في لون سيارة معينة هل هو أحمر أو هو بني فنعرف أمرا من ذلك هو كونهم مشتركون في أصل (اقرارهم بوجود السيارة)
وبالتالي هذا النزاع المنطوي تحت اشتراك أصلي يسمى نزاعا فرعيا .
أما حين يأتيهم (ثالث) (ج) وينازعهم أن السيارة أصلا غير موجودة فضلا عن أن يكون لونها أحمر أو بني فهنا نزاع من نوع مختلف يسمى نزاعا أصلي.
وهنا نحن أمام ضوبط حتى لانخلط الأمور:
1-نزاع الاثنين في لون السيارة لايمكن أن يكون مثل نزاع الثالث في وجود السيارة.
2-النقاش بين (أ) أو (ب) مع (ج) يجب أن يكون عن وجود السيارة من عدمها قبل أن يناقش لونها.
3-لايجوز ل (ج) أن يقول ما دمتم مختلفين في لونها فأحدكم مثلي ينفي وجودها فيستدل بنزاعهم على نفيها مثله.
هذه بدهيات منهجية يعبر عنها ب (ثبّت العرش ثم انقش)
فلايمكن أن يناقش ملحد حكما فقهيا وهو أصلا ينفي وجود الله والشريعة متفرعة عن الإقرار بوجوده..
فالنزاعات الأصلية هي الفيصل بين منهج حسي ومنهج عقلي 
أما النزاعات الفرعية فلاعلاقة لها لأنها أخص من المنهجين والأخص لاينفي الأعم..

مايفعله بعض التيميين هو المغالطة بخلط هذه المستويات:
فسابقا كان ابن تيمية عقلي لايختلف عن العقليين المثبتين لصالحية الاستدلال العقلي لإنتاج المعرفة ، لأنه مثلهم مجرد مخالف  ،رغم أنهم متفقون على أصل الاستدلال وخلافهم فرعي أما ابن تيمية ينفي أصل صلاحية الاستدلال المنطقي وخلافه أصلي وقد وضحت ذلك هنا بتفصيل (تدوينة )

أما حاليا مع تقبل التيمية لحسيّة ابن تيمية اختلف الأمر ، فأصبحت النزاعات الفرعية بين العقليين مثل كون المتكلمين يقولون بأن مدرك الكليات والجزئيات واحد هو النفس والفلاسفة يخالفونهم بتعدد القوى المدركة.. أو الخلاف في كيفية نشوء البدهيات أو الخلاف في ماهية العقل يعتبرونه مثل خلاف ابن تيمية لهم .
فنجد الجميع متفقون على أصول تجعلهم منهجا واحد وهي نفس الأصول العقلية
فالمكتلمون من سنة وشيعة ومعتزلة و كذلك الفلاسفة أتباع أرسطو أو الحديثون من متبعي أصالة العقل متفقون جميعا على أصول المنهج:
-يقررون العقل كوسيلة مستقلة للمعرفة غير راجعة للحس وإنما مبتدئة منه.
-يقررون أن العقل يصل إلى أن الوجود أعم من المحسوس (المادي) وبالتالي لامشكلة في إثبات موجود مجرد غير مادي فلا تنطبق عليه لوازم الماديات من الحجم والحيز وكونه في مكان أو مقيد بزمان.. وإن كان لايمكن تخيله إلا انهم يثبتون إدارك العقل لما وراء المتخيل أو ماوراء الطبيعة أو ماوراء المادة..

وخلافهم في التفاصيل أخص من أن ينفي هذه الأصول وهو (كالخلاف في لون السيارة)

بينما نجد ابن تيمية يخالفهم في الأصول
1-يقرر أن العقل راجع للحس ليس بمعنى أنه مبتدأه بل بمعنى الحسية الفلسفية فيحد عمله فقط بالاستقراء أو بالتخيل
2-يقرر انحصار الوجود في المادي فلاوجود إلا لجسم أو قائم في جسم (أما المجردات فيعتبرها وهم وعدم)

فخلاف ابن تيمية معهم (كالخلاف في وجود السيارة من عدمها) فهو منهج مستقل يعامل معاملة مستقلة بالضوابط التي ذكرتها.

أما التيميون فغالبا يتعمدون الخلط إما بالاستدلال بخلافات فرعية على نفي أصول الآخرين ، وإما باللعب على الألفاظ لجعل خلاف ابن تيمية فرعي مثل البقية..
فكما رأينا ماهر أمير قفز من كون الخلاف مع ابن تيمية في أصل المعرفة وهل العقل ينتجها بغض النظر عن كونها مبتدأه من الحس أو لا، 
إلى تحويل النقاش لفرع آخر يخالف تماما محل النزاع (الأصلي)..

وأبرز استخداماتهم لهذه المغالطة الصبيانية هو في استغلالهم لتشابه الالفاظ مثل (إثبات أهل السنة لرؤية الله) فيقفزون من لفظ الرؤية لإثبات كون الله محسوسا كالمحسوسات وإثبات كون الجميع متفقون في الاصول المادية!
ولتوضيح الأمر 
بعد اتفاق الجميع من (العقليين) على أصلين 
1-أن الله غير مادي ولامحسوس 
2-أن العقل وسيلة ادراك مغايرة للحس
قرر أهل السنة الأشاعرة أن المُدرِك حقيقة هو (النفس) وأن الحواس والدماغ وغيرها مجرد بوابات لعبور المدركات إليها.
ثم قرروا بعد ذلك أن الحواس تختص (بالشروط العادية) بنوع من المدركات المحسوسة المادية.
ثم قرروا بعد ذلك أنه مادام المُدرِك هو النفس أو الروح و(الحواس + الشروط العادية) وسيلة وطريق لإدراك المحسوسات فليس مستحيلا أن تكون (الحواس دون الشروط العادية) وسيلة لدخول معلومات للنفس مباشرة دون أن تكون مادية أو محسوسة..
وحينها أجازوا أن يرى الله بالابصار دون الشروط العادية (فهو لامادي وبالتالي يرى من غير جهة ولامقابلة ولا لون ولاشكل ولا اتصال شعاع) وسموا هذه رؤية لا بالمعنى الحسي المشروط بكون المرئي جسما وغيرها من شروط الرؤية الأخرى،،
بل هي رؤية لأنها نوع من العلم بالله خلقه الله في الباصرة ومنها دخل النفس المدركة فمادام منفذه الباصرة أو العين فهي رؤية حتى ولو لم تكن بالمعنى الحسي الذي يكون المرئي فيه مادي..
وبعضهم طرد هذا في كل الحواس باعتبارها منافذ فيمكن أن يخلق الله فيها علما دون شروط عادية فيخلق علما بكلامه في السمع ينفذ منه للنفس ويصح أن يكون سمعا لكلام الله رغم أنه ليس صوتا ولاحروفا بل هو العلم الذي في الاحوال العادية يعقب الصوت والحروف..
وهنا خالفت بعض الفرق أهل السنة في هذا بجعلهم الشروط العادية عقلية والنقاش فلسفي دقيق وعميق ليس هذا محله
ولكن عرضته لتوضيح أمرين
1-الخلاف هنا فرعي فالجميع متفق على تنزيه الله بإثباته موجودا مجردا والجميع متفق على أن العقل قوة ادراكية فوق الحس والجميع متفق على أنه ليس راجعا للحس..
2-قول الأشاعرة كما شرحته أن كل موجود يمكن أن يتعلق به الحس (بشروطهم وتفريقهم بين إدراك المحسوس المادي بالحس وبين الإدراك العلمي عبر الخلق المباشر في الحواس) ليس هو نفس القول بأنه لاوجود إلا للمحسوس كماقال الماديون أما كون تقريرهم صحيحا أو خاطئا فمبحث آخر..
3-اثبات اهل السنة لرؤية الله من غير الشروط العادية مع نفي الجهة والمقابلة....الخ 
هو خلاف فرعي مع الآخرين في كون هل حقيقة الرؤيا مجرد الادراك العلمي أم الإدراك العلمي بالشروط العادية لادراك المحسوسات.
وهنا من المغالطات أن يتساوى هذا مع من يعتبر الله جسما أصلا ولافرق عنده بين رؤية الجدار أمامه ورؤية الله أمامه فكلها محسوسات مجسمة.

لذا من يغالط بالقول (الأشاعرة وأهل السنة أثبتوا الرؤية وابن تيمية أثبت الرؤية) لذا هم واحد:
فهنا يعني أحد أمور.
1-إما ان ابن تيمية يثبت الله مجردا ويقول ليس في مكان ولاجهة ولاحيز ولاداخل العالم ولاخارجه و(هو ماينفيه ابن تيمية ويسميه عدما وتعطيلا) .
2-أو أن أهل السنة يوافقون ابن تيمية في حصر الموجودات في المادة ونفي العقل كوسيلة ادراك مستقلة ويقولون الله في جهة ومتحيز ...الخ (وهذا تكذيب حتى لابن تيمية الذي ألف ألوف الصفحات للرد عليهم لأنهم خالفوه في هذا)
3-يعرف أن هذا غير صحيح وذلك غير صحيح ولكنه مُحرج من عرض مذهبه والدفاع عنه فيلجأ للمغالطات اللفظية لتغطية حقائق المناهج والمعتقدات تثبيتا لمعتقده في نفوس اتباع.. وهذا هو غالب ماشاهدته من بعض من يتوسم فيهم الفهم.

وهذا يوضح سبب إنقياد المعتمد في فهمه على الشعارات و الالفاظ  لمثل هذه المغالطات وسهولة استغفاله واللعب به اعتمادا على عدم تقرير الأصول وفهم الأقوال في خضمها من قبل هؤلاء المدلسين..

الأربعاء، 25 أكتوبر 2017

إعدام (الصحوة) وتفادي الغفوة ..

ونحن نشاهد أحد منعرجات التاريخ وهي لحظة نزع روح الكارثة المسماة "الصحوة" ولفظ أنفاسها الأخيرة ، يجب علينا أن نشخّصها جيدا حتى لانسقط في فخ "صحوة" أخرى تختلف في الشكل وتشترك في المضمون .
تسطيح الصحوة إلى فترة زمنية معينة من 79 هو دفن للرأس في الرمل وربما أشبه بتسطيح علاج المرض والاكتفاء بعلاج أعراضه فقط ، وهو أمر قد يؤدي لعواقب لا تقل شناعة عن الصحوة نفسها كهدم الجسد المريض كاملا أو على أقل تقدير وقوعه في أمراض مزمنة أخرى .
ليس صحيحا أن الصحوة نيزك اجتماعي سقط عام 79 فقط بل هي تراكم لنهج معين استمر عقودا في مخاضه حتى أنجب المسخ "الصحوي" الذي جثم على صدور البلاد والعباد والثروات ، ويكفي نظرة سريعة على التاريخ من عهد المجدّد أو الأب الأعلى للصحوة (محمد بن عبدالوهاب) وتاريخه مدوّن بتدوين تلاميذه بإذنه وحقّقه نفس قادة الصحوة (كتاريخ بن غنام) لنرى جذور القضية حتى ننتهي لفتاوى مفتي الديار (محمد بن ابراهيم) وهي مجموعة في 13 مجلد وهو سابق لبداية السردية التي تسطح المشكلة بجعلها طفرة في عام 79 (والذي كان ذروة استثمارها لاغراض سياسية دولية)، وسنجد أن الواقع هو أن الصحوة وتبعاتها أزمة لنهج معين كامل يعبر عنه بالوهابي أوالسلفي.
هذا النهج نشأ لا كنهج علمي وإنما كنهج مفروض ، ففقدانه للطبيعة العلمية جعله يستعيض عنها بالتمكن بالحديد والنار و (السلطة) في نشأته وفي استقراره لاحقا وهذا ماتمكن منه بشكل ملحوظ تماما في أواخر السبعينات لظروف كثيرة متعددة ، فكانت فرصته في القمع مواتية حتى جثا على صدور الناس وفكرهم بعزلهم عن العالم والواقع ، فهو منهج لامحلّ فيه للانفتاح على الآخر ، بل يحتاج لبيئة مغلقة للاستقرار فتمّ عزل الشعب عن الآخر تماما بالسيطرة التامة والفلترة الدقيقة لكل مايسمح به وما لايسمح به حتى نشأ جيل لا يرى سواه للواقع و كممثل للإسلام وبالتالي ممثل للفرد ، وهذا أدّى لتشوه فكري غير مسبوق تم تصديره للعالم الإسلامي بالقوة الناعمة كإنشاء الجامعات المختصة لنشره ، وجلب المتحمسين بالمال لها ليرجعوا لبلدانهم وينشروه ، أو بالقوة العنيفة عبر الحركات السلفية الجهادية التي انتشرت بسواعد مخلصي هذا النهج .
واستمر الأمر على هذا المنوال حتى عصر ماقبل الانفتاح الأخير .
مالمترتب على ماسبق ؟
أمور عدّة منها التشوه العظيم للمنهجية ككل والإسلامية بشكل أخص ، فقد غرزت الصحوة في أذهان ضحايا هذا الفكر الضيق صورة النسخة السلفية المحدودة والمشوّهة من الإسلام كأنها هي الإسلام ككل .
تلك النسخة التي لاتمت للإسلام كمنهج من أعظم المناهج البشرية بصلة ، ونجد هذا الضيق حاضرا جدا في أدبيات هذا الفكر الذي قزم 1400 عام من العلماء والمناهج والمدارس التي حكمت العالم القديم ككل و أنشأت في كل بقعة حضارة لازالت آثارها ، وأورثت بكرم أسس المعرفة التي نتنعم اليوم بإنتاجاتها بعد تبني المجّدين من الأمم الأخرى لتفعيلها .
فنجد تقزيم وسطحية هذا الفكر في حصر كل ذلك على مدار آبائه الروحيين فلايتعدى تلخيص علوم الأمة ومناهج الإسلام إلا في بضعة أشخاص (ابن تيمية وابن القيم) ثم قفز إلى (محمد بن عبد الوهاب و أبناء منهجه) .
فتم بتر الإسلام بل قل تم إنتاجه بشكل غريب ، فأصبح عبارة عن صحابة في القرن الأول ثم فراغ لعدة قرون أشبه بالقرون المظلمة ، ثم صحوة شخصين في القرن الثامن أو السابع (ابن تيمية وتلميذه) ، ثم فراغ أيضا ثم صحوة محمد بن عبدالوهاب .
وتبع ذلك حذف لكل مابين هؤلاء من واقع وتاريخ ومعرفة ؛ وتضمن ذلك حذف للمناهج الإسلامية الحضارية واستبدل الإسلام بأُسسِه الفلسفية والفكرية التي أنتجت مناهج حقيقية ومدارس معرفية، بإسلام مبتورالأسس لا منهج له ولا أساس ، ويعتمد على مايشبه الكهنوتية التي عانت منها أوروبا المظلمة ، فهو عبارة عن مجرد فتوى وأقوال متوارثة تستمد أحقيتها من مكانة الشخص لا من الأصالة العلمية المنهجية للقول ؛ فنجد الفتاوى الغريبة من حرمة الغترة البيضاء ، إلى الطاعنة في الغرابة كحرمة سياقة المرأة أو تعليمها..الخ
والقاسم المشترك بينها جميعا أنك لاتعرف من أين أتت،فهي نتاج الإسلام المتمثل في أشخاص ومكانات لا في أفكار ومناهج.
وتم عزل المجتمع باسم الصحوة عن تاريخ الإسلام ومناهج الإسلام ، بل وواقع الإسلام في عصره المتمثل في الحواضر العلمية والمدارس الأخرى التي تم اقصاؤها؛كآخرمخالف لايجوز الاطلاع عليه وحُجِبت بتصوير خرافيتها وشركيّتها كحواجز نفسية للحفاظ على الأتباع داخل الحظيرة،وهو ماساعدت عليه فترة إمكان السيطرة على المنافذ الإعلامية حينها.
ونحن نشاهد الحكم بالإعدام على هذا المسخ الفكري يجب أن نتنبه لحقيقته ،حتى لاتختلط الحقائق الأخرى به فنقصي البريء بتهمة الجاني،فمن تضرر من الصحوة ومنهجها هو الإسلام نفسه قبل كل شيء حيث كان الشعار المستخدم اسمه دون مضمونه ، لاضطهاد الآخرين وهو منهم براء . فعلاج الصحوة لايكون بتدمير الجاني والضحية؛
والقضاء على الصحوة لايكون بتكرير فكرها بشكل آخر ومحاكمة الإسلام للنسخة التي سعت الصحوة لترسيخها في الذهن.
فالإسلام المنهجي كان بذرة تقدم الحضارة في كل الأمم قانونيا واقتصاديا واجتماعيا ؛ لايمكن أن يكون هو الصحوة أو منهجها السلفية ، فنحن نتحدث عن منهج قامت عليه الحضارة الأوروبية كما هومعروف من عهد ترجمة نابليون لجزء من منظومته الفقهية (شرح الدردير على مختصر خليل في الفقه المالكي) ،  وعليه بنى قانونه بمجرد نسخه ولصقه كما قال (غوستاف لوبون) فتمكن من توسيع امبراطوريته ونهضتها ثم ورث الأوربيون هذا القانون (الذي هو في الأساس جزء من المنهج الإسلامي) وبه قامت حضارتها ، فأساس الحضارة القانون والتشريع ؛
بل يقول المستشرق جورج ويلز "إن أوروبا مدينة للمسلمين في قوانينها الدولية التجارية"
وكان المنهج الإسلامي دعامة لكل حضارة تحاول الوقوف فنجده حاضرا في نقاش الآباء المؤسسين لأمريكا ، واعتمادهم عليه مُمَثلين في جيفرسون صاحب "بيان الاستقلال" الذي حصل على نسخة من القرآن مترجمة ، وتم الاعتماد على التشاريع الإسلامية في الدستور .
وذلك مشروح بتفصيل في كتاب (جيفرسون والقرآن) ل أ.سيلبيرغ .
وهذه الحقائق التاريخية مادفعت مؤتمر لاهاي 1937 على تقرير أن الشريعة الإسلامية من أهم مصادر القانون العالمي .
ومن جانب اقتصادي نجد لدينا نظاما صالحا لمزاحمة الأنظمة العالمية ، بل نجد تسارع خطى ضحايا النظام العالمي حتى أوروبيا للاقتصاد الإسلامي الكافل للإنسان ، لا لتكدس ثروات الجميع عند البعض والذي نجد تشاريعه إعجازية في محاربة الفقر ولا الغنى ، وفي ربط المال بالإنتاج ، فلانجد أرصدة تتضخم بالربا لأشخاص معينيين دون إنتاجية ، ولتضييق الفوارق بين طبقات الشعب وعدم احتكار الثروة وحرمة الاستئثار بالأسس الحياتية "مأكل مشرب مسكن طاقة" أو تدويرها كمكينة أرباح ، و وجوب كفل الفقير وتأمين العيش له ووجوب تأمين العمل وغيرها من واجبات الراعي والرعية فيما يتعلق بالاقتصاد .
فلا يمكن الخلط بردة الفعل العاطفية بين "الصحوة" كحقبة مظلمة وبين المنهج الإسلامي الذي كان أساس كل تنوير نشاهده شرقا وغربا .. فاستغلال العواطف الجماهيرية النافرة من شيء معين وتوجيهها لخدمة غرض آخر نكاية به أمر شائع على مدار التاريخ .
فقد استغل السادات احتقان المصريين وتعطشهم في فترة ما ؛ فدفع بهم للرأسمالية والتي كانت ولاتزال ليست غير خدمة لقوى عظمى وأنظمة عالمية على حساب الأتباع ، فسقطت مصر ونهضت على أكتافها القوى العظمى .
سقطت مصر كاقتصاد من أعظم الاقتصاديات وكشعب غارق في الرفاهية ، فتمت التضحية بها لتصل لحضيض الجوع خدمة لنظام عالمي مهيمن .
فقبل الاستيراد أو الإخصاء باسم "الوسطية" التي تحصرنا كمجرد مستهلكين بإسلام محصور في الطقوس الشخصية والعبادات دون أن يتعداها .
 علينا التأني حتى لانكون مكب مخلفات للأنظمة الأخرى ؛ فنجدنا في حين عودة الغرب بعد كوارث الأنظمة العقيمة لميراثنا التشريعي والاقتصادي والمنهجي نحتقره نحن بعواطف الاضطهاد الصحوي، ونرتمي في حضن أنظمته باسم العلمنة أو التنوير ونتخلى عن إمكانية رجوعنا للمنهجية الإسلامية والمنجم الفكري الموروث لصناعة ماننهض به اقتصاديا واجتماعيا وفكريا ، معتمدين على هويتنا الحقيقية في عصر الرجوع للهويات .

ابن تيمية وعقيدة التجسيم.. إثباته الحد والتحيز/ التركيب / والحجم والثقل 4

بعد اكمال السلسلة الأولى في الأصول الفلسفية والمعرفية لعقيدة ابن تيمية بدأت في كتابة سلسلة أخرى توضح فروع تلك الاصول التي اتسق فيها ابن...